عضلاتي لا تقوى على الهبوط من السلالم. جسدي معروق يرتعش في وهن و أنفاسي لاهثة ، لكني أجفلت من ركوب الأسانسير، إذ أعادتني فكرة حشر جسدي في مكان ضيق إلى أول يومين قضيتهما مصابا بكورونا : كان الكون حينها ضيقا كقبر ، و كان الهواء شحيحا كما طعام أيام مجاعة … دقائق طويلة ثم وجدتني خارج المبني …نظرت إلى الأرض قبل أن أتحرك و كأنني أردت أن أستوثق من وجودها تحتي حتى لا أسقط. و ربما للمرة الأولى وجدتني أنتبه كيف أمشي : أرفع قدما و أضعها أمام جسدي و أستند عليها ، ثم أرفع الثانية و أسحبها في الهواء و أضعها أمام جسدي …و هكذا …. بدا لي المشي فكرة غريبة ….كيف لا يسقط الانسان و هو يسير بقدمين فقط ؟ بل كيف يركض ؟ …. غرست عينيّ في أمنا الأرض …أليس غريبا أن يخرج طعامنا من مكان تدوسه أقدامنا ؟ تحركت الهوينى و قدماي تتبادلان الأدوار في لعبة المشي ….هل هناك كائن يماهي الأرض صبرا ؟ يطأها الناس و القطارات و العربات و المحاريث و تغوص في جوفها جذوع الأشجار و تشجها الزلازل و تتجشأ في جوفها البراكين ، و مع ذلك لا تزال تستضيفنا في كرم لا نهائي …. لو كانت مكان الأرض لغادرت الأرض !! …..هززت رأسي و أنا أهمس " ما بك يا أبا منة" ؟ نسائم الفجر عذبة و كأنني أتسكع داخل خريف ( لكن ما بالها ثقيلة علي رئتيّ ؟) …هل أصيب صدري بعطب ما ؟ … جلست قرب ذاك الميدان الفسيح . المكان خال من نظرات الفضوليين وحصوات صياحهم . مقبرة "بني مالك " تمتد على يميني .. تأملتها بهدوء كامل … لكنها هذه المرة لم تثر في نفسي ذاك الرعب القديم ….بدا لي الموت معتادا ذاك الصباح …لا غرو فقد كنت داخله !! تنفست بصعوبة …ثم رفعت عيني إلى السماء. الناس هنا مشدودون إلى الأرض طوال حيواتهم، فلا قمر ولا مطر ولا غيم يضطرهم لرفع الرؤوس الى الفضاء، هم سجينو مكاتبهم وشققهم وعرباتهم. رفعت رأسي و جبت بناظريّ زوايا السماء …ترى كيف تصعد الروح من الجسد ؟ الكابلي قال في قصيدة ما إنه يتمنى أن يتحول جسده إلى ورود بعد موته …فجأة بدأ وجه حبيب يتشكّل في الأفق ..وجه يربطني بالحياة ، و يشدني إليها … و دون أن أدري وجدتني أضحك …و أردد "لست الحجر يلقى في الماء ، و لكنني البذرة تبذر في الحقل " كما قال " محيميد " …"هناك أحباب ينتظرونني في الجانب الآخر من البحر" … عدت الى غرفتي. ثيابي مبعثرة في كل مكان ..أكواب ورقية و زجاجية و بقايا طعام …حاولت أن أتذكر اسم الكاتب الإنجليزي الذي لم ينظف غرفته لثلاثين عاما ..ففشلت !!…التلفزيون هامد منذ شهر تقريبا .. أخرجت رأسي عبر نافذتي الصغيرة و نظرت حولي . لا شيء يتحرك : البيوت و أوراق الأشجار و حجارة الشارع …تراني أنظر إلى لوحة في قماش ؟….ذاكرتي مبتلة ، و المشاهد تبدو ضبابية و كأنها تلوح وراء زجاج سيارة تحت المطر ….أغلقت نافذتي ، و أطفأت النور، ثم استلقيت على سرير شاطرتي موتي المؤقت … عصر ذاك اليوم قدت عربتي في الحارة …ما هذا الصندوق الحديدي الذي يعتقلني ؟ و هل صحيح أن الحديد ينزل مع ذرات المطر ؟ عيناي تتحسسان الأماكن كما تتحسس يدا طفل يحبو أرض غرفته … بدا لي غريبا أكثر من مكان كان معتادا …هذه الذاكرة المليئة بالتفاصيل …إن أعادني الله للحياة لأكنسنّها كما يكنس العمال شوارع المدن …لن تعود تلك الذاكرة المقهى الذي يضم شتى صنوف الناس : المثقفين ، و أرباب المعاشات ، و القواعد من النساء ، و بنات يخبئن صيف بلادي تحت ثيابهن ، و رجال وطنيين و آخرين خائنين ، و رسامين و مغنين …الخ ….سأكنس كل التفاصيل الصفراء ، و سأطرد كل المتشردين في أرصفة عمري …درت بعربتي صوب اليسار … حديقة جرداء تمتد عن يميني ..كنت أرتادها في الأمسيات حين كانت خضراء لكي أتأمل تلك الأشجار الأفريقية الكثة التي تحتل فيها ركنا قصيا…أذكر أول مرة وقفت أمامها ..كانت الظلمة تعم المكان ..فجأة خرج من داخلها رجل يحدث نفسه بصوت عال و كأن يشك في قدرته علي سماع نفسه …تأملت هيئته فإذا بذقنه كثة كما الأشجار ذاتها… تراه يعيش هنا ؟….ما أكثر البؤساء في الكون !! لم يحن الوقت بعد للذهاب إلى البحر …فالبحر قمة الإمعان في الحياة !! …….. يتبع مدينة جدة