كانت سماء الخرطوم ملبدة بالغيوم. بعضها داكنة السواد، وبعضها رمادية واخري شديدة البياض. كانت الغيوم تتحرك فوق سماء الخرطوم وتكاد تهطل فوق بنايات القيادة العامة للقوات المسلحة والتي يطلق عليها البعض قوات الشعب المسلحة. هتافات الشباب تشق عنان السماء وترتطم بالغيوم وترعد: حرية، سلام وعدالة والثورة خيار الشعب. يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور. تاتشرات الدعم السريع تجوب العاصمة وتكاد اعدادها تفوق اعداد اشجار النخيل الباسقة في شمال بلادنا. البنات يهتفن ضد لحس الكوع وضد سياط فقهاء السلطان ودين المشروع الحضاري وثماره المرة من جلد ومطاردة لمجرد ارتداء بلوزة قصيرة الاكمام او بنطلون جينز. ابصار الشباب وقلوبهم كانت تتجه صوب التاتشرات التي يتدثر بها الطاغية. كانوا يعملون الف حساب لكل الوان الكاكي بدعمه السريع والبطيء. كانوا يعلمون انهم يقفون بين القيادة العامة والمقابر علي امتداد الوطن. فكل شبر به هتاف يمكن ان يتحول الي مقبرة وكل زغرودة يمكن ان تقود الي موت. كانوا يعلمون ذلك ويؤمنون انهم اقوي من الموت واكبر من الخوف. الغيوم تجوب سماء الخرطوم وتختلط الوانها احيانا بالدخان الكثيف الذي يطلقه عساكر الدفاع عن نظام الشغب الحضاري. البلاد كانت كامراءة تغالب وجع الولادة وتتصبر عليه بلحظة رؤية المولود الجديد. الهتاف يدوي والامل يهزم الخوف رغم غتامة الواقع وضبابيته. لقد كانت معاول التصميم تحفر مقبرة المشروع الحضاري شبرا شبرا وشهيدا شهيدا. الشباب يتبادلون النكات رغم اصوات الرصاص ورائحة البمبان ويتراهنون علي اسم المقابر الجديدة التي سيدفنون فيها نظام الانقاذ. ذكر البعض مقابر احمد شرفي ولكنه سحب الاجابة. فهي مقابر قديمة ولقد امتلأت بالموتي حتي كادت ان تصرخ. وذكر البعض الاخر مقابر حمد النيل ولكنه سحب الاجابة لنفس الاسباب. وصاحت شابة تبدو عليها علامات الشقاوة وعدم الخوف بان المقابر الجديدة هي مقابر المشروع الحضاري. فصفق الجميع وعلا الهتاف مرة اخري: حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب واي كوز ندوسوا دوس. وبينما الرصاص يحاول تفريق الجموع الهادرة، نهض البعاتي من مقبرة مجاورة لمقابر حمد النيل. نهض في لحظة حاول الكثيرون تفسيرها من غير جدوي. لقد كان رجلا ككل الرجال عند مشاهدته من علي البعد. كان يرتدي بدلته الانيقه ويرسم علي وجهة ابتسامة تدل علي انه رجل محترم ووديع وفي غاية التهذيب. لقد كان الرجل بعاتيا يبدو ككل الرجال من علي البعد. لم يكن له قلب نابض ولا عروق تجري فيها الدماء. يقول البعض انه نهض من مقابر المادية التاريخية بدليل ان بعاعيت اخري قد نهضت معه من نفس المقبرة وانهم ساعدوه علي وضع بعض اللحم علي يديه وقدميه ودربوه علي رفع علامة النصر لتحية الثوار من الشباب للتقرب اليهم. لم ندقق في الرجل من علي القرب وهذا لم يكن خطأنا. لقد كان يتجنب القرب منا مجتمعين ويفضله مع بعضنا علي انفراد خاصة مع شلته من البعاعيت من مقبرة المادية التاريخية. لقد اجاد رفع علامة النصر وترديد بعض الجمل التي تبدو كحديث الثوار ولكنها بلا روح ولا تجري في حروفها اية دماء. لقد كان حديثا بعاتيا بلا روح من شاكلة سنصمد وسنعبر وسننتصر. لم يكن حديثا يصدر من رجل عادي ناهيك عن رجل اجلسه الشباب علي قلوبهم وفرحوا بقيادته لثورتهم. لقد كان حديث الاموات الذي خرجوا لتوهم من القبر بعد ان شبعوا موتا. لقد نسج بعضنا لحما ودماغا من خيالنا واسقطناه علي البعاتي ومجموعته البعاتية. غالطنا انفسنا ان طريقة الكلام البعاتية هي الصحيحة وان الانسان العادي، واضاف بعضنا، الخبير ، هو من يتجنب التجمعات ومن يبتسم اذا غضب ويكشر اذا فرح. اصر احد البعاعيت الخبراء من مقبرة المساومة التاريخية وهي الركن الجنوبي من مقبرة المادية التاريخية ان هذا البعاتي هو افضل من يقود طموحات واحلام واشواق شبابنا. افهم الان ما كانت تقوله حبوبتي وهي تحكي عن البعاعيت في الليالي حالكة الظلام في قريتنا. كانت تحذرني من الاقتراب من البعاتي وكانت تذكرني بانه لا يختلف عنا في المظهر وكيف اننا لا ندرك انه بعاتي الا بعد فوات الاوان. كانت تسألني في سخرية ظاهرة كيف اعرف انه بلا قلب نابض وبلا دماء تجري في عروقه دون ان اقترب جدا منه واشم رائحة الموت واسمع لغة الاموات السينية التي تتحدث عن مستقبل لن ياتي ابدا لانه لا ينتمي الي عالمنا، عالم الاحياء. كانت تردد كثيرا ان ضميره قد مات مع موتته الاولي وان اكثر ما يميزه هو موت الضمير. كانت تصمت وتسرح بخيالها كخبير اممي خلف اكوام الملفات: البعاتي يموت موت في اكل فشفاف الشباب الصغار ويحلي بي مخهم. اعمل حسابك لو قبضك واللة سجم امك وامك سجم امها. حاولت ان اقارن هذا البعاتي ببعاتي قريتنا قبل عشرات السنين. بعاتي قريتنا لم يكن يرفع اصابعه بعلامة النصر ولقد شاهدته يمشي ويده اليمني تسقط منه دون ان يشعر بها. ولقد اكد احد الاصدقاء انه قد شاهد بعاتي قريتنا واحدي اذنيه قد سقطت وهو يمر باحد بيوت الافراح عندما اقترب من الضوء. اذكر ان جدتي كانت تؤكد دائما ان البعاتي يحب الظلام ولا يتحدث كثيرا لان صوته يفضح عدم انتماءه لعالمنا، عالم الاحياء. لقد رفع علامة النصر عند قدومه من مقابر المادية التاريخية وهلل له رفاقه من البعاعيت. لقد اكل العشرات، بل المئات من بنات وابناء الثورة. لقد اصبح بعضهم بعاعيت يتحدثون عن الصباح ويحاولون اخفاء حبهم للظلام بالكتابة المختصرة: "قدامنا الصباح" وهم يؤكدون حبهم للسرية وللظلام. هذا البعاتي بعاتي من نوع مختلف، فهو لا ياكل فشفاش الشباب فقط، ولا يحلي باكل امخاخهم، بل ياكل طموحاتهم واحلامهم واشواقهم للحياة ولمستقبل افضل. احمد الفكي [email protected] 20/11/2020