لا أحد من أهل السودان لا يريد للسلام أن يتحقق على أرضه الحزينة، والتي ظلت ساحة للحرب لعقود طويلة، خسر السودانيون فيها من الأرواح العزيزة ما خسروا، وضاعت وأهدرت من جراها الثروات في مناطق الحرب، ونهبت من عصابات الداخل والخارج. تكونت الكثير من الحركات المسلحة لمواجهة نظام القهر والهوس الديني الذي جثم على السودان، إلى أن قيض الله ان تهب ثورة الشعب في ديسمبر 2019، فحانت فرصة لا تعوض لإقامة السلام وتوديع الحرب إلى الأبد. فهل كان المتحاربون في مستوى هذا الواجب المقدس؟ كثير من المحاربين من الحركات المسلحة الذين اكتووا بنار الحرب الوحشية التي شنتها عليهم قوات حكومة جماعة الأخوان المسلمين، للأسف، قد حكموا بأن جرائم نظام البشير العنصري المستبد، الذي استباح مناطقهم المهمشة في دارفور والنيل الأزرق، بأنها قد كانت اتجاهًا عامًا تورطت فيه جميع قبائل السودان الشمالي والأوسط، باعتبار أن هذه القبائل هي الحاضنة للمعزول عمر البشير ونظامه. هذا تفكير معوج، بالطبع، حيث ان البشير وتنظيمه لم ينطلقا من تحريض قبائل الشمال أو الوسط، وإنما انطلاقا من خطة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بأخضاع كل مناطق السودان، ولا سيما دارفور ومناطق النوبة، لما سماه تنظيمهم حكم الشريعة الإسلامية، ثم فرضه بقوة السلاح على أنحاء البلاد، فشنوا على كل هذه المناطق حربا شعواء تحدت وتجاوزت كل أخلاق الحرب، واتفاقيات جنيف، وقوانين حقوق الإنسان. أمام صمود شعوب تلك المناطق ومن تصدى للدفاع عنها من الحركات المسلحة، قاد نطام الإنقاذ حرب إبادة شرسة، لا نظير لها في التاريخ الحديث، وأستعمل بعض القبائل العربية في المنطقة لتقتيل وإهانة القبائل الأخرى، وإخضاعها، مما خلق استقطابا حادًا، وكراهية عنصرية، لم تكن موجودة في هذه الأنحاء. وبعد الثورة، واقتلاع نظام البشير، ظهر واقع جديد، يبشر بإتحاد كل السودانيين والتفافهم حول شعارات الثورة العظيمة والعزم على تحقيقها. فقد كانت شعاراتها تتلخص في طلب السلام والحرية والعدالة، وهي شعارات يدخل في نطاقها التضامن بين كل الأعراق والمعتقدات. فما تم رفعه من شعارات في هذه الثورة، كان ينتظر تحقيقه على أرض الواقع، ولم تكن مجموعات الثوار من الشباب والنساء والرجال، تتصور، مجرد تصور، ألا يبدأ السودانيون، حكومة وشعبا في بناء السودان وفق القيم الجديدة. وقد تكونت الحكومة، بمجلسيها، في ظروف معقدة، وسط صراعات بين قادة (قحت) وبقايا النظام البائد، ولم تكن الحركات المسلحة حاضرة، فظهرت لتحاور حكومة الثورة التي أعلنت شعارات السودان الجديد، بنفس الروح التي كانت تحاور بها حكومة المخلوع التي ثار عليها الشعب. ثم بدأت تظهر على بعضها مشاعر العداء لسكان الشمال والوسط، وكأنهم أعداء، لا شركاء، في معركتهم ضد الظلم والضيم الذي قهرت به حكومة عصابة الأخوان المسلمين البائدة شعب السودان من حلفا إلى أقصى الجنوب، بينما جلس فيه قادة هذه الحركات وهم منسجمين ومتفاهمين، مع قادة الجناح العسكري في المجلس السيادي، المعروف للعالم كله تورطهم في ارتكاب المجازر، وفي قصف المدنيين بمناطق دارفور وجبال النوبة، وبينهم من هو من هو من أبناء دارفور! وقد ظل البعض منهم يصرح بالهجوم على جميع أهل الشمال، وكأنهم كانوا جزءا من النظام الغاشم، وهم منه براء، بل هم أيضًا كانوا من الضحايا لذلك النظام، مثلهم في الهم مثل بقية الضحايا، من أهلنا في الشرق واهلنا في الغرب. ولو كان مواطنو شمال السودان ووسطه كما يدعي هؤلاء لما هتفوا في أرض الأعتصام، بصوت قوي سمعه العالم أجمع: (يا عنصري ومغرور، كل البلد دارفور). وقد نسب هؤلاء النفر الظلم الذي حاق بهم، بتدبير من عوض الجاز وعلي عثمان محمد طه وصلاح قوش، بأنه ظلم من قبائل الشمال، وهو تفكير تبسيطي ساذج وقصير النظر. ذلك لأن هؤلاء النفر من المجرمين قد ظلموا أبناءً وبناتًا كثر من نفس قبائلهم أيضا! ولو أرادوا دليلًا على خطل اتهامهم فلم لا يتذكروا ما فعل بهم أبناء قبائلهم من أمثال كبر، والسيسي، واحمد هارون، وغيرهم من أهل مناطق الغرب؟! إن عصابة (الإنقاذ) التي أحتضنت الخونة من هؤلاء وأولئك، ومكنتهم من الحكم وسرقت موارد البلد بالكامل من جميع أنحاء البلاد، ولو كانت قد عملت على تعمير دارفور، وتعمير بقية المناطق المهمشة، لما نشأت الحركات المسلحة أصلا. بل أكثر من ذلك، فإن هذه الطغمة الفاسدة قد عمدت إلى تسكين النازحين في العاصمة، في أحياء صار بعضها، فيما بعد، مخزنا للسلاح، الذي تتحدث عنه نفس الحركات المسلحة المعارضة! ولقد أهملت حكومة العصابة المخلوعة جميع مناطق وأقاليم الغرب، الغنية بمواردها، وضربت أهلها الأبرياء الباقين في مناطقهم بالبراميل المتفجرة. وللأسف، فإن إتفاق الحركات المسلحة مع الحكومة الانتقالية، الممثلة في المكون العسكري، قد جاء تجسيدا لهذا الوهم العنصري، كأن المناطق المهمشة في دارفور ورصيفاتها قد كانت مستعمرة من قبائل الشمال!! ففي إتفاق جوبا وافقت حكومة العسكر على مل المطالب الغريبة لمجموعة الحركات المسلحة، بالرغم عدم تمثيلها للشعب السوداني، الذي فجر الثورة بدماء شبابه، الذين قابلوا النيران بصدورهم العارية، وبدماء وشرف نسائه العزّل السلميين، بينما لم ترفع الحركات المسلحة بندقية واحدة للتصدي لعساكر ومليشيات النظام البائد، وهي تقوم بأبشع قمع وحشي لفض الإعتصام السلمي في القيادة!.. وجتى لك تقم تلك الحركات بعمليات عسكرية لإضعاف النظام المستبد، لتتيح لثوار الشارع فرصا أكبر للإنتصار.. لم يجد الثوار من يقف معهم من معارضي النظام من المسلحين! فهل نخطيء إن قلنا أن عساكر مجلس السيادة قد عقدوا صفقة تمكنهم من البقاء أربعين شهرا أخرى في الفترة الانتقالية وضمان إستمرار رئيس المجلس (العسكري) إلى آخر المدة، ومنع المدنيين من تبادل الرئاسة مع العسكر، كما هو متفق عليه قبلا؟!! ووافقت لهذا على المطالب المجحفة المقدمة من قادة الحركات على حساب حق المدنيين، في صفقة عقدت، وراح ضحيتها الشعب الثائر المطالب بالمدنية؟! كتب احد الناشطين، معددا من هم على رأس الحكم في السودان، المتوقع بقاءهم والقادمين، مبينا أن معظمهم من دارفور، ورصيفاتها من مناطق التهميش بغرب السودان وجنوبه، وهم: حميدتي.. التعايشي.. جبريل ابراهيم.. الهادي ادريس.. عائشة موسى.. عمر مانيس.. أركوي مناوي.. نصر الدين عبد الباري.. (دارفور).. مالك عقار ( النيل الازرق) صديق تاور (جبال النوبة) شمس الدين كباشي (جبال النوبة) عبد الله حمدوك رئيس الوزراء من جبال النوبة جنوب كردفان.. وقضى الاتفاق بأن يتم تعيين ستة وزراء جدد من دارفور، من ضمنها ثلاثة وزارات سيادية. وسوف يتم تعيين خمسة وسبعين عضوًا في البرلمان من دارفور. وكل حكام اقليم دارفور ومحلياتها سوف تكون لناس دار فور. وكل فرقة من فرق الجيش المنتشرة في كل ولايات السودان، سيكون بها جنودا وضباطا من دارفور. وسوف يكون نائب الفرقة من دارفور. وسوف يتم إشراك أهل دارفور في حكم باقي ولايات السودان بنسبة أربعين في المائة. باقي الولايات سوف تحول 600 مليون دولار سنوياََ لناس دارفور. أما الدراسة الجامعية بكليات الطب والهندسة والشرطة والجيش سوف يتم قبول أبناء دارفور فيها بنسبة خمسين في المائة، وكليات الطب والهندسة وكل الكليات العلمية في كل السودان ستكون مجانا لطلاب دارفور، ولمدة عشرة سنوات، وكأننا نعيد قبول أبناء الدبابين في عهد الجهاد الإسلاموي. وسوف يتم تعيين 25 سفيرًا من دارفور، و12 سفيرًا من كردفان. و40٪ من الوظائف السيادية والبنوك والمؤسسات الرسمية في الدولة ستكون من نصيب أبناء دارفور. (انتهى النقل الملخص) فهل هذه القسمة عادلة، أم أنها الذهاب إلى النقيض، بإعتبار أن شمال السودان كان يستأثر بالسلطة؟ وهو وهم عاش عليه طويلًا أهل المناطق المهمشة في دارفور؟ وهل ينجح هذا التقسيم في أدارة السودان بصورة تؤهله للتنمية والأمان؟ أم إنها الفتنة الطائفية التي وقعت فيها الحركات المسلحة وعساكر المجلس السيادي، الذين ابتلعوا الطعم الذي وضعته الحكومة الفاسدة، ليكون كل من يأتي بعدها سائرا في فلكها الشرير! إذا تمت هذه القسمة الضيزى فإنه الفشل بعينه والباء الذي يؤدي إلى مشاكل كبيرة لن يفيق السودان منها قريبا. وأتوقع أن يعتدل الوضع بعد أن تفشل هذه النخبة، مثلها مثل نخب الشمال، في حل مشاكل السودان. ليفهموا في نهاية الأمر أن النجاح في إدارة السودان سببه الإخلاص والفهم والمنهج الصحيح وليس الانتماء العرقي. مازالت تطرق أذني كلمات الصديق الشاعر الدكتور فضيلي جماع وهو يراقب حال أهل دارفور: (خوفي على دارفور من رماح أبنائها)!! وهو عنوان لمقال نشره في موقع سودانيزاونلاين قبل سنوات، والعنوان يكفي لفهم مقصده. خاتمة: احد الشباب الغاضبين قال لي قبل الثورة بسنوات: الشايقية مسكوا البلد وتحكموا فيها، مشيرا إلى علي عثمان وعوض الجاز. قلت له: بل كيزان الشايقية وغيرهم هم المسكو البلد، وها أنا أمامك لا استطيع تشغيل إبني المؤهل، وهو شايقي أباً عن جد، عن أم، عن جدة! خلف الله عبود [email protected]