لدى مخاطبته حفل تكريم رجل الاعمال شكينيبة بادي يشيد بجامعة النيل الازرق في دعم الاستقرار    شغل مؤسس    عثمان ميرغني يكتب: لا وقت للدموع..    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ساحتنا السياسية البائسة تفتقر الى هذا"...."،،هل يعقل ان ينشطر هذا السودان إلى دويلات بعدد قبائله حتى في داخل جمهورية (مثلث حمدي) العربية الإسلامية.؟
نشر في الراكوبة يوم 23 - 06 - 2013

عندما طوي علم جمهورية السودان ليرتفع مكانه علم جمهورية جنوب السودان المستقل قبل عامين، كان ذلك تدشينا لمرحلة جديدة في تاريخنا، عنوانها"السودان إما أن يتجدد وإما ان يتبدد"، ولكن الحاكمين والمعارضين والشعب السوداني استقبلوا تلك اللحظة التاريخية الفارقة ببرود وسلبية محيرة،
الحاكمون وأذيالهم من منابر العنصرية وبث الكراهية الدينية والعرقية قلبوا الصورة رأسا على عقب وحولوا (الخيبة الوطنية الكبرى) إلى احتفالات وذبائح وحديث ممجوج عن جمهورية ثانية رشيقة لأنها تخلصت من عبء الجنوب! المعارضة ممثلة في أحزاب الشمال كعادتها لم تفعل شيئا يرقى لحجم الحدث،ولو كانت معارضة جادة لجعلت من لحظة انقسام الوطن ساعة صفر لمواجهة حاسمة مع النظام ولرفعت شعار إسقاطه عاليا، لا سيما ان انشطار السودان تزامن مع ثورات اطاحت فيها شعوب المنطقة العربية بحكام على سوئهم لم يتسبب واحد منهم في تقسيم وطنه الى دولتين! والشعب السوداني على مستوى قواه الحية لم ينتج أي رد فعل قوي يعبر عن غضبه على انقسام وطنه، والغضب المقصود بالطبع ليس موجها إلى الجنوب الذي اختار الاستقلال، بل كان يجب ان يتوجه إلى السياسات المأزومة والممارسات العنصرية التي دفعت الجنوب دفعا إلى الاستقلال، لأن المواجهة الحاسمة لتلك السياسات والممارسات هي ضرورة حياة لما تبقى من الدولة السودانية، لا سيما ان هذه الدولة تضم جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وهي مناطق حملت السلاح جنبا الى جنب مع الجنوب وعانت من مظالم شبيهة ونزفت وذاقت الأمرين في حربها مع الدولة المركزية وقبل ان يكتمل استقلال الجنوب اندلعت الحرب في جبال النوبة وبعد الاستقلال باقل من شهرين اندلعت الحرب في جنوب النيل الأزرق، كما تضم هذه الدولة دارفور التي اندلعت فيها حرب شرسة ارتكبت فيها فظائع وجرائم حرب شبيهة بما كان يحدث في الجنوب ، وتضم هذه الدولة شرق السودان الذي حمل ابناؤه السلاح كذلك وما زالت أرضه مزروعة بملايين الألغام ، ووضعت جبهة الشرق السلاح وفق اتفاقية هشة، وما زال هذا الإقليم يتجاور فيه الميناء والذهب ، والسل والعطش وحقول الألغام وهو جوار لا يبشر بسلام! وهذا يعني باختصار أن استمرار المنهج القديم في إدارة الدولة السودانية يعني ذهاب جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ودارفور وربما شرق السودان بذات الطريقة التي ذهب بها الجنوب، أي ان الشعب السوداني أمام خيارين: إما الإطاحة بنظام المؤتمر الوطني وإما الاستعداد لتفكك ما تبقى من السودان،
الإطاحة بالمؤتمر الوطني حتى تكون نقطة انطلاق تاريخية لتوحيد ما تبقى من الدولة السودانية، وحتى تكون استشرافا لعهد جديد بحق لا بد ان تتم هذه الإطاحة على أساس مشروع وطني كبير يكون (شمال ووسط السودان) جزءا مؤثرا وفاعلا ومساهما في هذا المشروع بالفكر والنضال السياسي وبالتضحيات، وأهم دور يجب ان يلعبه أهل الشمال والوسط في هذا المشروع هو تقديم البرهان العملي في ساحات المواجهة مع المؤتمر الوطني على ان هذه (الطغمة الإنقاذية) التي ارتكبت أبشع الجرائم باسمنا وباسم ديننا وثقافتنا لا تمثلنا، بل هي العدو الاستراتيجي لنا نحن اهل الشمال والوسط بمثل ما هي عدو للجنوب القديم وللجنوب الجديد ولدارفور وللشرق، هي عدو لنا لأن حكم الاستبداد والفساد الذي أقامته سجننا وعذبنا وشردنا وأهدر فرصنا في النماء والتطور وفي الاقتسام العادل لثروات وطننا التي نهبت من قبل الأقلية الفاسدة، فالأكثرية ان لم نقل الأغلبية من أهل الشمال والوسط فقراء مسحوقون ومواردهم منهوبة ولا يتمتعون بمستوى التنمية والخدمات الصحية والتعليمية الذي تتيحه لهم موارد بلادهم، المستفيدون اقتصاديا من (الطغمة الإنقاذية) في الشمال والوسط هم أقلية فاسدة، أما الأغلبية فلا مصلحة لها على الإطلاق في تدمير مشروع الجزيرة وتدمير السكك الحديدية والنقل النهري وضرب القاعدة الانتاجية في في طول البلاد وعرضها في مقتل واستشراء المحسوبية التي أقصت أهل الكفاءة لصالح أهل الولاء!
و(الطغمة الإنقاذية) هي العدو الاستراتيجي للشمال والوسط من وجه آخر أكثر عمقا وهو أن هذه الطغمة تمثل الاتجاه العنصري الاستعلائي المتعصب والمنغلق في ثقافة أهل الشمال والوسط، فقدمت ديننا وثقافتنا وانتماءنا الإثني في صورة الظلم والقهر للآخر الشريك لنا في الوطن وبالتالي فإن هزيمة المشروع الاستعلائي الإقصائي يجب ان تكون هدفا عزيزا لاهل الشمال والوسط لأن هزيمة هذا المشروع ليست مجرد تضامن مع أهل القوميات المهمشة والمستضعفة في الجنوب وجبال النوبة ودارفور التي أذاقها هذا المشروع ويلات القتل الجماعي والتشريد، بل هو انتصار تاريخي للشمال والوسط نفسه، فمن أراد خيرا بأهل الشمال والوسط فعليه أن يبذل التضحيات في سبيل ان ينتصر اتجاه الاستنارة والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة واحترام الآخر والاحتفاء بالتنوع، من بين الاتجاهات التي تتجاذبهم، فأكبر هزيمة معنوية وأخلاقية لأهل الشمال والوسط هي ان ينتصر فيهم اتجاه العنصرية والاستبداد والفساد والإبادات الجماعية وجرائم الحرب وان يقدم القهر والموت والتعذيب والتشريد باسم دينهم وثقافتهم، وتأسيسا على ذلك فإن الأوفياء للشمال والحادبين على مصلحة الشمال هم الذين يناصرون الحقوق المشروعة والقضايا العادلة للأقاليم المهمشة ويبشرون بالسلام العادل وبالمحبة بين أبناء الوطن الواحد، وليس الذين يدقون طبول الحرب والعنصرية ويبثون خطاب الغرائز الدنيا والعدوانية والكراهية العمياء من المهووسين والموتورين.
إن حالة الاستقطاب الإثني الحادة والانقسام العميق بين مكونات الوطن ليس فقط على مستوى التوجهات السياسية بل على مستوى الوجدان والمشاعر، وحالة الغبن المتراكم، وازدهار حالة الكفر الجماعي بالدولة السودانية الواحدة في أوساط أهل الجنوب الجديد(جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ودارفور)، كل ذلك يستوجب من المؤمنين بوحدة السودان سواء من أهل الشمال والوسط ، أو من أهل الأقاليم المهمشة جنوبا وغربا وشرقا، يستوجب منهم الاصطفاف في مشروع وطني كبير أهم ما يميزه هو كسر الحواجز الإثنية والدينية والاجتماعية ومن ثم الكفاح المشترك ضد العدو المشترك ممثلا في (الطغمة الإنقاذية) باعتبارها اكبر عقبة في سبيل وحدة الوطن، وبالطبع لا تنحصر أهداف هذا المشروع في إزالة الطغمة بل تتجاوز ذلك إلى تغييرات جذرية ومنهجية في كيفية حكم السودان وإدارته.
إن حالة الاسترخاء السياسي في الشمال والوسط في هذا الظرف الذي تمضي فيه البلاد نحو التمزق تحتاج إلى وقفة، وفي هذا الإطار هناك قضية في غاية الخطورة لم تحظ بالقدر الكافي من النقاش المفتوح والمنهجي حتى في القاعات المغلقة ناهيك عن المنابر الجماهيرية ووسائل الإعلام، وهي قضية خوف أهل الشمال والوسط (وأعني هنا عموم الجماهير) من اي تحرك جدي لاسقاط النظام خوفا من ان ذلك سوف يفتح الطريق للزحف المسلح على العاصمة من الجنوب الجديد، فكلما أثيرت قضية التغيير في أي مجلس من مجالس المدينة - وأعني هنا تلك المجالس العادية غير الموالية للإنقاذ او المستفيدة منها - كان الصوت الأبرز هو صوت من يقولون إذا دخل المسلحون الى المدن سيكون هناك قتل على أساس عنصري تدفعه الأحقاد والروح الانتقامية ، والحركات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان تريد استئصال العنصر العربي، واستباحة المدن من قبل المسلحين تعني الفوضى الشاملة وفقدان ما نحن فيه من أمن واستقرار نسبي، وبالتالي فإن الحكم القائم على علاته أفضل من الفوضى، وهذه المخاوف تغذيها الآلة الإعلامية للطغمة الإنقاذية لأنها المستفيد الأول من مثل هذه الروح التي تقود إلى الاستسلام لحكم المؤتمر الوطني بل والدفاع عن بقائه لأنه ضمانة لحماية أهل الشمال والوسط من حقد وانتقام الأطراف!
وهنا يبرز السؤال ما هي الآليات السياسية و الإعلامية التي أنتجها سياسيو ومثقفو الشمال والوسط المنحازون لقضايا المهمشين والمستضعفين في كل أقاليم السودان ، والمؤمنون بعدالة القضايا التي دفعت الجنوب القديم والجديد لحمل السلاح ، ما هي الآليات التي أنتجوها لهزيمة هذا الخطاب الذي يدعي الخوف من العنصرية وهو في جوهره يصدر عن موقف عنصري، وكعادة العنصريين من أهل الشمال والوسط ينسون أو يتناسون عنصريتهم هم تجاه قوميات معتبرة من شركائهم في الوطن، ويتناسون أن العنصرية المضادة التي لا يستبعد ان تكون موجودة في اوساط تلك القوميات ما هي رد فعل على عنصريتهم هم التي جسدها نظام حكم البلاد لاكثر من عقدين من الزمان وقتل وشرد وارتكب الفظائع (المسكوت عنها مع سبق الإصرار والترصد) فكيف يكون رد الفعل مجرما بأكثر من تجريم الفعل الأصلي؟ وهذا لا يعني بالطبع شرعنة العنصرية المضادة التي تنظر إلى كل شمالي كجزء من نظام الإنقاذ او متواطئ معه، ففي هذا الوسط والشمال مناضلون شرفاء بحق ولهم مواقف ضد كل انتهاكات حقوق الإنسان والمظالم التي تعرضت لها القوميات المهمشة، وهم أنفسهم تعرضوا للسجن والتعذيب والقتل على يد الطغمة الإنقاذية، وحتى انسان الشمال والوسط العادي المشغول بمعاشه والذي يسحقه الفقر والشقاء ولم يؤذ احدا ليس من العدالة أو الإنسانية في شيء استهدافه على أساس إثني، ومن هنا يبرز سؤال آخر ماهي الآليات السياسية والإعلامية التي أنتجها السياسيون والمثقفون المنتمون للحركات المسلحة أو المتعاطفون معها لهزيمة خطاب العنصرية المضادة والتأكيد على أن العدو المستهدف هو النظام الحاكم وسياساته ، وان المعارضين لهذا النظام والرافضين بصدق ومبدئية لكل سياسات الإقصاء والتهميش والعنصرية هم حلفاء لاهل الهامش. وهناك أيضا نظرة اهل الهامش الارتيابية لساسة الشمال والوسط باعتبارهم لا يختلفون عن الإنقاذ اختلاف نوع بل على احسن الفروض يختلفون عنها اختلاف مقدار، فكلهم من دعاة أسلمة الدولة وليست لهم رؤية واضحة أو فعل يذكر تجاه قضية التنمية غير المتوازنة، وبالتالي يراهن أهل الهامش على سلاحهم لا على العمل السياسي المشترك مع المعارضة الشمالية، وهناك قطاعات معتبرة من المعارضة الشمالية تنظر إلى ذلك السلاح نظرة ارتيابية وتعتقد جازمة انه سيقود إلى دكتاتورية جديدة. مشروع التغيير لا بد ان ينتج خطابا موضوعيا وأفعالا ملموسة تبطل مفعول هذه المخاوف المتبادلة المعوقة للتلاحم بين أصحاب المصلحة في التغيير شمالا وجنوبا حتى يتحقق التغيير بأيديهم جميعا ولمصلحتهم جميعا . .. أواصل بإذنه تعالى.
في هذا السياق لا بد من نقاش موضوعي للمخاوف بدلا من إنكارها أو القفز فوقها، وأجدر هذه المخاوف بالنقاش هي مسألة الخوف من تغيير تكون اليد العليا فيه لسلاح الجبهة الثورية، جانب من هذا الخوف ينطلق من النظرة العنصرية من عامة أهل الشمال والوسط للأقاليم المهمشة، ولهذا الخوف جانب آخر لا بد من مناقشته، وهو أن السلاح عدو للديمقراطية، وأن الذين يحملون السلاح يرفعون مطالب مناطقهم غير آبهين بمطالب التحول الديمقراطي في عموم السودان، وأن المساومة بين حملة السلاح والنظام الحاكم يمكن أن تقود إلى نيفاشا أخرى تنتهي بانفصال جديد، لا سيما أن المجتمع الدولي وهو لاعب أساسي في الشأن السوداني يدفع في اتجاه حل إصلاحي يكون النظام القائم جزءا منه، إضافة إلى أن المفاصلة الدموية الشاملة وتحول كل مدن البلاد وعاصمتها إلى مسرح للقتال هو أمر باهظ التكاليف ويمكن ان يؤدي الى انهيار وتشظي شامل.
من ناحية موضوعية من حق الناس ان يختلفوا في منهج التغيير ومن حقهم ان يرجحوا التغيير بالوسائل السلمية والعمل المدني وينبذوا العمل المسلح، ولكن بشرط ان يكون هناك عمل محسوس على الأرض وحراك مدني بائن للعيان، ولكن المشكلة الأساسية في السودان هي ان من ينبذون العمل المسلح ويشككون في نوايا أصحابه ويسهبون في الحديث عن أضراره ومخاطره يفعلون ذلك من مقاعد الاسترخاء السياسي! متجاهلين بداهة أن الساحة السياسية لا تحتمل الفراغ، وأن الوسيلة الوحيدة لتفادي الكلفة الباهظة للتغيير بالسلاح هي الإقدام على التغيير بالوسائل السلمية، وهذه أيضا لها كلفة باهظة في ظل نظام مستبد وفاسد وقمعي كنظام الإنقاذ ولكنها وبحسابات موضوعية ستكون أقل من كلفة التغيير بالسلاح، لأن تصويب اللعنات إلى العمل المسلح من مقاعد العطالة والاسترخاء السياسي معناه التواطؤ مع نظام الإنقاذ ومساعدته على استدامة احتكاره للسلطة ومواصلة قهره للشعب السوداني.
إن الذين حملوا السلاح لم يستأذنوا أحدا في حمله، وبالتالي لن يضعوا سلاحهم مجاملة لأحد، بل إنهم سوف يعملون بجد ومثابرة في ميدان المواجهة بالسلاح لأن هذا هو الميدان الذي هم فرسانه ولأن هناك قضايا عادلة تحركهم، وسوف يكون وزنهم السياسي ومكتسباتهم في أية تسوية سياسية بقدر ما يحققون من انتصارات في هذا الميدان، تأسيسا على ذلك يجب على الخائفين من التغيير بالسلاح أن يهبوا إلى الميادين التي من المفترض أن يكونوا هم فرسانها أي ميادين العمل المدني السلمي من أجل إسقاط النظام، ويسقطوا النظام بأيديهم هم حتى يقفوا مع حملة السلاح على أرض الندية والتكافؤ وتجد أولوياتهم السياسية حظها من الاهتمام في أية عملية سياسية لهندسة المستقبل، جنبا الى جنب مع أولويات حملة السلاح، وهذا المنطق ينطبق حتى على الذين يناصرون الجبهة الثورية ويراهنون عليها في إحداث التغيير من قوى مدنية، فيجب على هؤلاء أيضا القيام بواجبهم النضالي من أجل التغيير لأن الساحة السياسية لا يتقدم فيها أحد إلا على قدر إنجازاته وتضحياته.
وإذا أردنا لهذه البلاد أن تتوحد فلا بد من تغيير واقع العمل في جزر سياسية معزولة، كل منها متشككة ومرتابة في الأخرى، لا بد من العمل المشترك بين أصحاب المصلحة في التغيير، ولا بد من مد جسور التواصل والتفاهم بين الحركات المسلحة والقوى المدنية، والأهم من ذلك مد جسور التواصل بين هؤلاء جميعا والشعب السوداني الذي لا بد من مخاطبته بعمق ومنهجية لا تفترض فيه فقدان الذاكرة، لأن أي تغيير رهين لتحرك هذا الشعب.
في ختام هذه المقالة أود الإشارة إلى خاطرة لم تغادرني منذ ان فكرت في الكتابة حول هذا الموضوع، وهي أن حديثي ربما يكون أشبه بما يفعله بعض التلاميذ عندما يحلون الامتحان ويجتهدون في تجويد الإجابات بعد ان يكون الزمن المخصص للإجابة قد انتهى وتم جمع الأوراق ! ولا أدري هل هذا إفراط في التشاؤم أم أننا كسودانيين فعلا سقطنا في امتحان الوحدة الوطنية ودخلنا عمليا في مرحلة الانقسام إلى عدد من الدويلات المتناحرة، ولكن هذه الخاطرة الكئيبة لم تصرفني عن كتابة المقالة لأن الفكرة المركزية التي تدور حولها هي أن هزيمة مشاريع العنصرية والاستبداد والفساد، وانتصار مشاريع الإخاء الإنساني والمساواة والديمقراطية يجب ان تكون هدفا لنضال السودانيين على اختلاف انتماءاتهم، وأن الحكم الراشد الذي يحقق حرية وكرامة وإنسانية ومصالح السودانيين لا يمكن تحقيقه إلا بالاصطفاف خلف الأفكار والقيم والمبادئ والمشاريع السياسية الراشدة والمستنيرة ، لا خلف الأعراق أو القبائل أو المناطق، وهذه الفكرة تظل ضرورية لنهضة السودانيين وتقدمهم كجزء من المجتمع البشري سواء استمر ما تبقى من السودان كدولة موحدة، أو انفرط العقد وقامت عدة دويلات سودانية، صحيح هناك أوضاع شائهة وشائنة دفعت القوميات المضطهدة والمهمشة سياسيا واقتصاديا وثقافيا على أسس عنصرية لحمل السلاح والاصطفاف خلف الانتماءات الأولية( العرق والقبيلة والجهة) انتصارا للكرامة وطلبا للحقوق،
ولكن حتى إذا انتهت هذه المواجهات المسلحة بالانقسام إلى عدة دويلات، فإن كل دويلة سوف تجد نفسها وجها لوجه مع واقع التنوع الإثني والقبلي داخلها، والتعددية السياسية، وستجد نفسها وجها لوجه مع مجموعات ذات نزعات استبدادية ساعية للهيمنة السياسية واحتكار السلطة والثروة والامتيازات، وفي هذه الحالة سيكون المنقذ الوحيد هو المشروع الديمقراطي، مشروع الحكم الراشد القائم على المشاركة والشفافية والمساءلة والمحاسبة وسيادة حكم القانون، مشروع التنمية الاقتصادية والإنسانية والعدالة الاجتماعية، فهذا المشروع العابر للانتماءات العرقية والدينية والثقافية هو الضمانة الوحيدة للاستقرار وحفظ حقوق الإنسان وكرامته، هذا المشروع تحتاجه دولة جنوب السودان الوليدة، وحتما ستحتاجه دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق إذا أصبحت دولا مستقلة، وسيحتاجه شرق السودان، كما ستحتاجه جمهورية (مثلث حمدي) العربية الإسلامية.
كل إقليم من أقاليم السودان هو منطقة تعدد عرقي وقبلي وديني وثقافي واختلافات سياسية، ولذلك يحتاج كل إقليم لفن إدارة التنوع والاختلاف، فلا يعقل ان ينشطر هذا السودان إلى دويلات بعدد قبائله، ورغم اختلافنا الجذري مع الدولة المركزية في السودان ولا سيما في نسختها الإنقاذية، ورغم اعترافنا التام وألمنا البالغ لما تعرضت له جبال النوبة ودارفور وجنوب النيل الأزرق من مظالم وانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان وجرائم بشعة، فإن الحل النهائي ليس في التمزق والتشظي، ولكن منع هذا التمزق والتشظي يتطلب أفعالا كبيرة وجريئة وإرادة وطنية صلبة وهذا ما تفتقر إليه ساحتنا السياسية البائسة.
صحيفة التغيير الالكترونية
سبق وأن نشرنا الجزء الثاني من هذا المقال "كلام في المسكوت عنه: المخاوف المتبادلة بين الشماليين والجنوبيين الجدد " بدلا عن الجزء الاول " نأسق لذلك " وهذا هو رابط الجزء الثاني الذي نشر :
http://كلام في المسكوت عنه : المخاوف...لجنوبيين الجدد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.