بسم الله الرحمن الرحيم (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) صدق الله العظيمفي يوم قريب هاتفني الأخ الصديق التيجاني الكارب باكرا بصوت خفيض ورنة حزن دفين تنبىء بشيء ما، هذا وكان قد نفذ أمر الله، وكانت الصدمة التي اهتزت لها أقطار نفسي، فملأ الحزن والأسى جوانحي، برغم أني كنت متابعا لصيقا لحالته الصحية وتعقيداتها، وظللت أحس بمشاعر القريب والبعيد، كيف كان يكابد آلامه بصبره المعهود ويقينه الثابت الذي جبل عليه، فهو المؤمن موطىء الأكناف الذي يألف ويؤلف، المتوكل دوما على ربه الكريم بلسان ذاكر وقلب خاشع ونفس حامدة شاكرة. لقد نال مني الفقد كل جميلة * وصار فؤادي دامي الجراح عليلا فرحيل مولانا رحيل أمة مؤمنة بقضاء الله وقدره، فالموت كلمة قاسية تقطع علاقات علاقات الناس وتبدد أحلامهم وتشتت شملهم، وبرغم أن الموت حقيقة لا مراء فيها، إلا أن النفس البشرية لا تألفه لأنه نقيض الحياة وعدوها اللدود، وتجزع منه النفوس إلا من رحم ربي.وما الموت إلا سارقا دق شخصه يصول بلا كف ويمشي بلا رجلمولانا دفع الله تسلق المجد باكرا في حياته، إذ كان طالبا مميزا ثم قاضيا مرموقا فمحاميا شهيرا فوزيرا نابها وأديبا مطبوعا وخطيبا مفوها وشاعرا فذا ورجل أعمال ناجح، ترك بصماته بكفاءة واقتدار أينما حط رحاله، فالرجل كنز معرفة وعلم وآداب وفوق ذلك صاحب خلق نبيل ونفس متسامحة تعفو وتصفح عن هفوات الناس وترهاتهم. برحيله انطوت صفحة مشرقة وخبت شعلة مضيئة في فضاء السودان يحفها الإجلال والإكبار ومكارم الإخلاق. كانت داره رحيبة بالأصدقاء والأحباب في تلك الجمعة الراتبة، يأتون إليها من مذاهب شتى. كان يتلقاهم بالبشر والترحاب، تعلوه ابتسامة تطل من وجه متهلل كريم، يقدم لهم أطايب الطعام، والكل يحس أن مولانا هو الأقرب إليه. لم يكن مكتبه أقل من داره ترحابا وبشرا بزائريه وطالبي المساعدة وأصحاب الحاجة، ولا يكاد يرد أيا منهم، بل يسعى ما وسعه الجهد لبذل المستطاع متى ما كان ذلك ممكنا ميسورا في سماحة وطيب نفس، فجزاه الله عنهم كل ما هو أهل له من الخير والفضل والحسن والجزاء. عرفت مولانا دفع الله زمنا طويلا بحساب الزمن وعميقا بحساب المعاني، وتعد صداقته كسبا لإنسان عظيم الخلق. عرف بالمودة وصفاء النفس وطيب المعشر. لقد كان فقده خسارة عظيمة على مستوى الوطن لما حباه الله به من حكمة وحنكة ودراية وموهبة فائقة في التعامل بصبر وأناة مع القضايا الشائكة وتعقيداتها في الظروف الحرجة. فلا جزع إن فرق الدهر بيننا فكل فتى يوما به الدهر فاجع وما المال والأهلون إلا ودائع فلا بد يوما أن ترد الودائع ستفتقده امدرمان وأهلها وخاصة أهل ود نوباوي ذلك الحي العريق الذي اظلم بفقد ابنهم البار وفارس حلبتهم الذي يعتزون به، وهو لهم في النائبات خير معين. على المستوى الشخصي فقدت أخا وصديقا يثق به ويعتمد عليه كلما اشتد الهجير أو قست الأيام، وسيبقى فقده جرحا نازفا وستبقى ذكراه وأيامه الخالدة تزكي نار أحزاني إلى الأبد. اللهم انزله منازل الأخيار والصالحين واجزه الجزاء الأوفى الذي يليق بعبد حامد شاكر ذاكر يرجو رحمتك ويخشى عذابك، وانت القائل في محكم تنزيلك (نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم) صدق الله العظيم. حباه الله بأسرة كريمة وزوجة فاضلة مصون، السيدة الشفاء التي كانت تشاركه كريم الخصال والفضائل وتتحمل قدرا من أعباء الدار المفتوحة ليلا ونهارا مع ابنائها وكريماتها (محمد، ويوسف، ثم أميمة، سارة، سلمى، ثم نسرين) الله أسأل أن يلزمهم الصبر واليقين وينزل البركة فيهم وفي والدتهم. عزاء حار لأصدقاء وأسرة يوم السبت في منزل الأخ الكريم مصباح الصادق، حفظه الله وأدام فضله. اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره، والله يتولانا جميعا برحمته.