أحلام اسماعيل حسن كنت قد تخطيت تلك البقعة المُباركة التي تشع نوراً بعلمها وعلمائها الأجلاء: بروفيسور عبد الله الطيب، وأُدبائها: محمد المهدي مجذوب، والسر قدور ... عندما اقتربنا من الدامر؛ رأيتها تسبح في هالة من الأنوار الهادئة الخضراء التي تضفي سكوناً على نفس داخلها.. كيف لا، وهي تعج بالأولياء والمُداح ومراتع القرآن؟ توقف بها قطارنا؛ فإذا بالذكريات تتزاحم وتسترجع صورة ذلك الرجل الجميل الذي ربطته علاقة ود وصفاء ومحبة خالصة مع أبى إسماعيل، وكم من مرة ترافقنا في رحلات مزرعتنا بالباقير، حيث كان الأدب والفن يملآن أجواء ذلك الزمان. الآن تتراءى لي حلقة ذكر تعلو فيها دقات النوبة وصيحات الغارقين في الذكر وهم يرتدون ثيابهم الخضراء المميزة، يتمايلون يمنة ويسرة بحركات موزونة ومحسوبة مع إيقاع النوبة. هذه النغمات تهزني من الداخل، وإيقاعاتها تحلق بي في دنياوات خارج عالمنا ... إنَّها الصوفية التي عرف حلاوتها هؤلاء القوم فانغمسوا فيها ونسوا عالم الماديات. تحابوا في الله من غير طمع دنيوي، واستصغروا دنيانا لدرجة الانصراف الكامل عن ملذاتها الفانية، وانعكس ذلك نوراً وضياءً يشع من وجوههم النيرة. تذكرت محمد المهدي المجذوب يقف وسط جمعنا بالباقير، يلقي قصيدته ليلة المولد، ومنذ ذلك اليوم ارتبط اسمه لدي بكل مولد يمر علي، في ذلك اليوم انتشى الحضور وغابوا مع المجذوب في عالمه، اليوم أرى تلك اللوحة المرسومة بالكلمات واقعاً أمامي يترجم قصيدة المجذوب التي سأقتطف بعضاً منها : صلِّ يا رب على المدثر وتجاوز عن ذنوبي وأعني يا إلهي بمتاب أكبر فزماني ولع بالمنكر * درج الناس على غير الهدى وتعادوا شهوات وتمادوا لا يبالون وقد عاشوا الردى جنحوا للسلم أم ضاعوا سدى * أيكون الخير في الشر انطوى والقوى خرجت من ذرة هي حبلى بالعدم أتراها تقتل الحرب وتنجو بالسلم ويكون الضعف كالقوة حقاً وذماماً سوف ترعاه الأمم وتعود الأرض حباً وابتساماً صلِّ يا رب على المدثر وتجاوز عن ذنوبي واغفر وأعني يا إلهي بمتاب أكبر ليلة المولد يا سر الليالي وهنا حلقة شيخ يرجحن يضرب النوبة ضرباً فتئن وترن اعذروني إن ذهبت بكم خارج رحلة القطار، لكنَّها رحلةٌ روحيةٌ أجبرتني عليها هذه المدينة الفاضلة بأهلها وعشقي وهيامي بهم. ... نواصل مسير رحلتنا من عطبرة المصدر: مداميك