أحلام اسماعيل حسن سألني الشاب الذي تملؤه الدهشة عن وجهتي التي أقصدها. قصدت ألا أجيبه مباشرة، بل لابد من تأكيد شايقيتي التي شكَّك فيها بأن أتحدث معه بلهجة أهلنا الحنينة، فقلت له: -إنتوا قايلين النعام آدم ده حقكن براكن؟ والله النعام ده هيلنا نحن برضو، ويمكن لينا فيهو أكتر منكُن. وقتها انفجر الشاب ضاحكاً من أعماقه. ثم قال لي: – والله حيرتيني يا بت عمي عديل (آمنت بي شايقيتك) والله بس ناقصي الشلوخ. فانفجرت ضاحكة عندما دفع لي بالمسجل مع مجموعة من أشرطة الكاسيت، قائلاً: -إنتي بعد السمعتو منك ده بقى عندك حق الفيتو، أسمعي الدايرا تسمعيهو، بس الأوصيك على المسجل والشرايط ديل أصلي أنا جايبو من السعودية لي أمي التي غبت منها تلاتة سنوات، وكانت طلبتو مني في آخر رسالة منها: – نحن جااااهزين لي عرسك موية ونور، كريمي كلها تسعل منك وناس خالتك جهزوا عروستن إن شاء الله ربنا يتمو ليكن على خير يسعدكن ويهنيكن، بس يا ولدى يا أشرف ما تنسى تجيب لي معاك وصيتي دييييك الوعدتني بيها (تقصد المسجل)، عشان كدي أنا شايلو فوق كرعي زي الشافع لامن أوصلو ليها سالم، باقي أنا بريد أمي دي ريدة شديييدة بالحيل. شعرت أنَّ ذلك الشاب الذي عرفت من حديثه أنَّه من كريمة، وأنَّ اسمه أشرف، قد أخذ نفساً عميقاً بعد أن أفرغ ما بداخله وكأنَّه قد أنزل حملاً ثقيلاً كان يضايقه. انشرحت أسارير أشرف، وأخرج من حقيبة كان يحملها ورقةً وبدأ يقرأ قصيدةً قال إنَّه كتبها أثناء غربته شوقاً لأهله ووطنه، وكان يلقي قصيدته بصوت جميل مؤثر يعبر عن مدى معاناته التي عاشها: "كنت في ذلك الوقت لا أعرف معنى الاغتراب، وما كنت أحسب أنني سأعيشه يوماً ما، الآن صرت أسمع صوت ذلك الشاب وأحس نبراته الحزينة بعد مرور كل هذه السنين .. كم أنت قاسية أيتها الغربة". انضم إلينا أحد الشبان الذي استهوته القصيدة، وإذا به يقرأ هو أيضاً قصيدة، مما شجعني على مجاراتهم، فصرت ألقي بعض قصائد أبي عليهم، والتي نالت إعجابهم واتسعت الحلقة بانضمام المزيد من المسافرين لها، ثم سحب أحدهم شنطة صفيح من تحت إحدى كنبات القطار وأخرج طنبوراً لتكتمل اللوحة، وصار يعزف عليه ببراعة متناهية، فإذا بصاحبنا أشرف الذي كان يلقي الشعر يتحول إلى مغن يمتلك صوتاً رخيماً أطرب الجميع. عندما علم الشباب بقرب القطار من محطة عطبرة تراءى لهم الفنان المبدع الذي ارتبط اسمه بهذه المدينة، حسن خليفة العطبراوي، فصاروا يتغنون جميعهم بالأغنية الوطنية: أنا سوداني أنا .. أنا سوداني أنا فكانت لوحة إبداع عفوية غاصت في دواخلنا فتلقفناها لنجدها محفورةً في ذاكرتنا إلى يومنا هذا وستظل، ثم عرج الشباب على أغان كثيرة للعطبراوي، اختتموها ب: نسانا حبيبنا الما منظور ينسانا مالو سافر روح ما غشانا حليل الخوة الما قدر عشانا نسانا حبيبنا وعارف ريدنا هولو وعندما لاحت معالم عطبرة تحول الغناء كأنَّما هنالك مايسترو يقود هذه الفرقة: قطار الشوق متين ترحل ترسى هناك ترسينا قطار الشوق متين توصل حبيبنا هناك راجينا يا قطار الشوق حبيبنا هناك يحسب في مسافاتك ولو تعرف غلاوة الريد كنت نسيت محطاتك وكان بدرت في الميعاد وكان قللته ساعاتك وكان حنيت على مرة وكان حركت عجلاتك نسايم عطبرة الحلوة وفي عطبرة؛ لابد من وقفة بعدها نواصل ... المصدر: مداميك