* كلما سنحت فرصة ، يُذكِّرُني صديقي "عبدالله" – وأُوافقه على ذلك تماماً – أن صداقتنا هذه التي امتدت لما يناهز الخمسين عاماً ، لم يكن هنالك أيُّ سبب وجيه لنشوئها ، وأن المسألة تمَّت دون أي مبررات حقيقية .. وهذا هُو ما جرى في الواقع !! * كنتُ في حوالي العاشرة ، في يوم عُطلة من المدرسة ، قضيتُها في حديقة الحيوان ((كانت هنالك حديقة للحيوان في المكان الذي يقف عليه الآن "برج الفاتح" أو "فندق كورنثيا" ، تعُجُّ بمئات الأنواع من الحيوانات البرِّيّة اللاحمة و العاشبة و الطيور و الأفاعي و حتى التماسيح والأسماك، قالوا إن علي عثمان محمد طه ، الذي كان والده ، رحمه الله، خفيراً لها، و فيها عاشت الأسرة ، قام بإغلاقها و تشريد الحيوانات، حتى لا تذكِّرهُ بماضٍ سعى إلى نسيانه)) .. وهُنالك ، بجانب قفص "القرد" كان يقف بجواري ، بالصدفة ، طفلٌ يماثلني سنَّاً ، لا يتمتع بأي قدر من اللباقة أو الجمال ، غير أنَّهُ كان يُشاركُني الضحك على عُروض القرد البهلوانية ، حتّى "زهج " القرد ، فذهب إلى جانب من قفصه ، ورقد ، فالتفتُّ إلى جاري ، ودار بيننا حديثٌ مألوف : * القرد ده "فقري" خلاص!! * آي .. * إنت إسمك شنو؟ * إسمي عبدالله * وعند نهاية الحوار والتعارف ، كنت قد عرفتُ أنَّه يسكن في الحي المجاور لحينا ، وأنه يدرس في المدرسة المجاورة لمدرستنا ، وفي ذات دفعتي .. وأنهُ لا مانع لديه أن ينضّمَّ إلى مجموعة "المُذاكرة" التي أنتمي إليها.. * وبرغم أننا لم نكُن نتشابه في أي شيء ، إلا أن ذلك القرد أفلح في ابتدار تلك الصداقة غير المبررة بيننا ، والتي امتدت حتّى اليوم .. * إذاً .. القانون الأول : أفضل بيئة لنشوء علاقة أيجابية بين شخصين (صداقة – شراكة – مؤامرة – حُبٌّ من طرفين .. إلخ ) هي بيئة الضحك المشترك على شيءٍ ما .. * أما بعد عشرين عاماً من ذلك ، فقد تسببت أحداثٌ صغيرةٌ وتافهةٌ في إجهاض صداقةٍ كانت كُلُّ المقومات قد توفَّرت لها سلفاً .. فقد كُنتُ قد بدأت لتوِّي أشقُّ طريقي في حقل الصحافة ، وكُنتُ أسمع كثيراً عن الأخ (ميم) الذي يجمعني به كثيرٌ من التشابه ، وهو بدوره صحافي ولكن خارج البلاد ، قرأتُ لهُ كثيراً ، وظلّت أخباره وتحاياهُ تصلني عبر الصديقٍ المشترك ، والزميل (ح) ، وربما تبادلنا كلمات التقريظ بالهاتف بين حينٍ وآخر .. ثم .. * كُنتُ مديراً للتحرير في صحيفةٍ ما ، وكانت ثمّة أخطاء ارتكبها بعض المحررين قد تسببت في تأخُّر كبير في تصميم الصحيفة ، مما هدَّد باحتجابها غداً ، فكان مزاجي ، تبعاً لذلك ، سيئاً للغاية ، فكُنتُ عصر ذلك اليوم "عُدوانياً" ، مُتذمِّراً ، لا أملك كلمةً طيبةً لأحد ، حين طرق باب مكتبي أحدُهم ، فأجبتُهُ ، بضيقٍ ، أن ينتظر قليلاً ، فأنا (ما فاضي).. ثم نسيته .. * ثم اضطرني شأنٌ إلى الخروج من المكتب ، فرأيتُ عند الباب فتىً يماثلني سناً آنذاك ، سألتُهُ بجفاءٍ عمَّا يُريد ، فقال لي ، بجفاءٍ مماثل ، أنهُ يريد الأخ (ح).. فقلت لهُ بلؤمٍ ، أنه ليس موجوداً ، ثم انصرفتُ إلى توبيخ من وجدتُه من محررين ومواصلة "الطنطنة" وسوء السلوك .. * بعد حوالي ساعة ، اتصل الأخ (ح) مبدياً حيرته من الطريقة التي استقبلتُ بها (ميم) الذي عاد من غُربته فقرر – قبل الذهاب إلى بيته – المرور على مكتبي والتعرُّف إليَّ عن قُرب .. * كان عسيراً ، بعد ذلك ، معالجة الأمر ، فقد كُنتُ ، بدوري ، أنتظر رؤية "ميم" لابتدار صداقةٍ توفرت لها كل عناصر الاستمرار ، وبرغم أنني لقيته بعد ذلك واعتذرتُ له بسوء الظرف الذي التقينا ، لأول مرةٍ ، فيه ، وبرغم أن ما بيننا ظل بعدها وطيداً ، إلا أنني لم أستطع أبداً أن أسمي ما يربط بيننا (صداقة) .. * إذاً .. القانون الثاني : أفضل بيئة لنشوء عداوة بين شخصين ، أن يلتقيا للمرة الأولى ، في حال تعكُّر مزاج أحدهما أو كليهما أو في حال غضبٍ ظاهرٍ على الوجه ، وفي غياب أي قدرٍ من العبارات المهذبة .. * القانونان المذكوران أعلاهُ ، قانون الضحك ، وقانون "الغضب" ، يُمكن استغلالهما في تبرير الكثير من العلاقات الانسانية ، الايجابية منها والسلبية ، فعلاقات الحب ، مثلاً ، تنشأ من أول نظرة إذا كانت هنالك ضحكة ، أو – على الأقل – ابتسامةٌ متبادلة ، وكثيراً ما يُفاجأ الناس ، بعد الزواج ، بأن تلك الضحكة كانت أسوأ ضحكة في حياتهم ، وهكذا دواليك…