ربما لم يتوقع أبداً شيوخ الأخوان المسلمين في السودان في فترة بداية الستينيات أن يترأس التنظيم د. حسن الترابي الشاب القادم من فرنسا بعد أن تخرج من كلية (السوربون) الشهيرة وتم انتخابه أميناً عاماً للجماعة الأمر الذي لاقى اعتراضاً من بعضهم باعتبار أن للترابي أفكار يرونها منذ تلك الفترة المبكرة تصادم الفكر الأصولي المرتكز على نظرية الإسلام السياسي ، وكان أكثر المعترضين هو الشيخ محمد صالح عمر الذي أبدى مخاوفه على تنظيمهم الإسلامي من فكر الترابي وقال ( أنا ما خائف على الحركة إلا من الترابي) بحسب رواية الشيخ الصادق عبد الماجد في حوار سابق ، الأمر الذي تسبب في شق الجماعة حيث انضم اليها كل من الشيخ محمد مدني سيال والشيخ جعفر الشيخ إدريس والشيخ محمد عبد الله برات والشيخ علي جاويش للتنظيم باسم (الأخوان المسلمون) لينضم إليهم الشيخ الصادق عبد الماجد في بدايات 1980م عندما قام بفصله من جبهة الميثاق د. الترابي بعد أن أصدر بياناً انتقد فيه غياب الشورى في الجماعة وعدم المؤسسية . نحو السلطة في العام 1985م بعد سقوط نظام النميري عبر انتفاضة السادس من أبريل أعلن د. الترابي عبر مؤتمر صحفي تكوين الجبهة الإسلامية كبديل لجبهة الميثاق الإسلامي، وقد شكل المناخ السياسي المنفتح في تلك الفترة من تغلغل التنظيم في مفاصل الدولة والمؤسسات الاقتصادية فأنشأت الحركة عدة كيانات اجتماعية للمرأة والشباب ومنظمات خيرية بغرض الاستقطاب التنظيمي ، واهتمت بالعمل الإعلامي عبر الصحف الموالية لها وأقامت الندوات السياسية في كل الولايات، حتى تمكنت بالفوز بخمسين مقعداً داخل البرلمان بعد عقد الانتخابات في العام 1986م ودخلت في ائتلاف في الحكم مع حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي، لكنها عندما خرجت من الائتلاف مغاضبة ظلت تقود حملة شعواء ضد الحكومة الائتلافية بتوزيع المنشورات التحريضية والحديث في بعض المساجد وكانت تحاول استمالة القوات المسلحة والتأثير عليها من خلال الحديث المستمر عن الإهمال الذي تواجهه من تعيينات ولبس وهي تقاتل في أحراش جنوب السودان آنذاك، واستطاعت بالطرق الإعلامي والسياسي المستمر أن تهيأ الرأي العام لقبول الانقلاب ضد الحكم الديقراطي الحزبي الذي كان يشهد العديد من المشاكسات والمكايدات السياسية حتى بين الحلفاء في الحكم . حتى تمكنت من الانقلاب على السلطة بقيادة العميد آنذاك عمر البشير لتستمر في الحكم عبر ثلاثة عقود اتسمت بالتمكين لمنظومتها التي ذابت في حزب المؤتمر الوطني ، والذي خرج منه لاحقاً د. الترابي بعد المفاصلة الشهيرة في العام 1999م وكوّن حزب المؤتمر الشعبي بيد أنه بعد عدة سنوات عاد تنظيم الحركة الإسلامية على السطح غير أن تأثيره على قرارات الحكم كان ضعيفاً جداً بعد انفراد البشير رئيس النظام بالسلطة وتغييب التنظيم الإسلامي وحزب الحكومة المؤتمر الوطني ، لكن مع ذلك فقد كانت منظومات الحركة الاسلامية الاقتصادية تعمل تحت واجهات متعددة ذات طابع خيري ودعوي استفاد منها العديد من النافذين في الحكومة والحركة الإسلامية . وقد خرج بعض المخلصين منذ وقت مبكر من التيار الإسلامي وآثروا التقوقع بعيداً عنه كما إن عدداً من الشباب الذين قاتلوا في حرب جنوب السودان تحت رايات الدين وقتل الكثيرون منهم صدموا عندما اكتشفوا أن النظام الذين دافعوا عنه والغ حتى الثمالة في تحقيق المصالح الخاصة وأن العديد منهم آثروا وامتلكوا العقارات باهظة الثمن في المناطق الراقية وامتطوا السيارات الفارهة . تآمر مبكر ولأن النظام البائد اعتمد في حمايته والنيل من خصومة بواسطة الأذرع الأمنية السلطوية الرسمية أو عبر التنظيمات المدنية الأمنية مثل الأمن الشعبي وأمن الطلاب، كان لهذه المنظومات دور تآمري منذ تفجر الثورة وظلت تخطط تحت الظلام وترسم الخطط الإعلامية والتعبوية المباشرة استهدافاً لقطاعات المجتمع المختلفة معتمدة على المتحالفين معها، وهو أمر عمل على عرقلة مسيرة ثورة ديسمبر اقتصادياً وفرملة حركة الإصلاح السياسي الثوري الذي يستهدف رموز النظام البائد وتفكيك منظومته التي تشكلت عبر مسيرة تمكينية لم يشهدها التاريخ المعاصر للبلاد عبر ثلاثة عقود خلت ، ولهذا نجحت عصبة النظام السابق ومعاونوه في حياكة العديد من التفلتات الأمنية والصراعات الأهلية المفتعلة وصناعة الخراب الاقتصادي بتنشيط تجارة العملة حتى انهار الجنيه السوداني بجانب احتكار السلع الضرورية مما تسبب في ارتفاع غير مسبوق في أسعارها وخلق موجة من الغلاء المتوحش . تهديدات مباشرة ولأن جماعات النظام البائد ومعاونيه قد نجحوا في خنق الحكومة وحصارها بالأزمات المتلاحقة وجدوا أن تحريك الشارع في ذلك المناخ الملغوم والمكتوي بالغلاء والإحباط من مآلات الإصلاح في ظل الواقع الحالي لدى الكثيرين على اختلاف ثقافاتهم وتبايناتهم الطبقية ولهذا يبدو أن الحركة الاسلامية التي جمعت شعثها مجدداً بعد سقوط نظام الإنقاذ تريد القفز مباشرة على المراحل واستنهاض الجماهير وعضويتها من الملتزمين والمستفيدين من عودة النظام البائد بالدعوة إلى الشارع واسقاط النظام ، فقد أصدرت الحركة الإسلامية بياناً بثه الأمين العام المكلف للحركة والوزير السابق في نظام البشير علي كرتي دعا فيه إلى إسقاط الحكومة واتهمها بإفقار المواطنين، وساهمت في تردي الأوضاع بالمستشفيات العامة، وزادت الألم للفقراء والمساكين، ودعا للتظاهر السلمي مع إن منظومته مسؤولة عن أعمال العنف الدامي والدماء الذي حدث طوال الفترة الانتقالية . يرى العديد من المراقبين أن بيان النظام السابق لن يؤثر في استنهاض الجماهير بالمشاركة في التظاهر ضد الحكومة واسقاط الفترة الانتقالية بالرغم من الصعوبات والمعاناة التي تواجهها من اسقاطات الوضع الاقتصادي الحالي باعتبار أنها تدرك أن النظام البائد هو الذي يقف وراء صناعة جل الأزمات التي حدثت من أمنية أو اقتصادية كما أنها تدرك مدى الفساد الذي ولغ فيه طوال فترة حكمه الطويلة وسياج التمكين التي بناها وحرم أبناء الوطن من غير المنتمين له من العمل والاستتثمار الاقتصادي وحارب الرأي الآخر ونكل بالمعارضين سجناً وتعذيباً وقتلاً بليل أو تحت قضبان الزنازين المظلمة . كما إن شباب الثورة المسلحين بالوعي يدركون حقيقة التآمر ومن هم داعموه المتخفون ولهذا فإنهم قادرون على إبطال كل تلك (السيناريوهات) وإن حققت بعض أهدافها المرحلية .