مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    شرطة دبي تضبط حافلة ركاب محملة بأسطوانات غاز!    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    الموعد الأضحى إن كان في العمر بقية،،    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معاوية يس يفتح النار في كل الاتجاهات
الفتنة ب "الحقيبة" دمّرت فرص تطور الفن الغنائي في السودان
نشر في الراكوبة يوم 31 - 03 - 2021

*الفتنة ب "الحقيبة" دمّرت فرص تطور الفن الغنائي في السودان
إعادة تقديم الغناء المسموع أغلقت الباب بوجه الخلفاء المحتملين للرواد
التوثيق ليس معرفة ملفهمة الأغنية.. وأدعياؤه مجرد فقاعة مصيرها الزوال
الدولة السودانية مطالبة بإقامة مؤسسة لأرشفة الصوت السوداني وحفظه
الثورة ضُيعت ولا أمل في إصلاح الإعلام.. والإذاعة السودانية تتشظى!
أقوم بإنتاج فيلم عن اعتقال وردي في 1971 وأتوقع هجمات "حُرّاس التاريخ"*
حاوره يوسف عوض الباري
يعد الصحفي الكاتب معاوية حسن يس من أبرز المؤرخين للغناء والموسيقى في السودان. وقد صدرت له موسوعته الشهيرة من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان في ثلاثة مجلدات ضخمة، مليئة بالمعلومات الدقيقة، والموثوق بها، محتوية على أدق المراجع، من مقابلات أجراها هو نفسه،أو تسجيلات صوتية حصل عليها من الإذاعة السودانية، ومن مصادره الخاصة التي استثمر فيها جل شبابه على مدى يزيد على 30 عاماً. ومن المفارقات أنه ألّف هذه الموسوعة وهو يقيم في العاصمة البريطانية، التي هاجر اليها منتصف ثمانينات القرن العشرين. وقدم لمجلدات موسوعته الثرة كبار أدباء وكُتاب السودان: الشاعر الدبلوماسي المفكر محمد المكي إبراهيم، والدكتور العلامة عبد الله علي إبراهيم، والمفكر الكاتب الدكتور النور حمد. وقد حرصت مجموعات تعنى بالغناء على أثير التواصل الاجتماعي على استقطابه لعضويتها. لكنه نادراً ما شارك بموضوعاته فيها. حول أسباب ذلك وقضايا تاريخ الفن الغنائي الأخرى، تحدثت الى الأستاذ معاوية حسن يس. ودار بيننا الحوار التالي:
هل انتهت موسوعتك التاريخية على الأجزاء الثلاثة المتاحة في الأسواق حالياً؟
– كنت أتمنى أن يكون المحلد الثالث، الذي صدر في بيروت عام 2015 آخر الأجزاء. لكنني اكتشفت أنني لم أتناول بالتوثيق جانباً مهماً جداً، وهو تاريخ التسجيلات الغنائية والموسيقية، خصوصاً الأسطوانات السودانية، منذ فترة ما يعرف ب "حقيبة الفن"، وانتهاء بشركات إنتاج الأسطوانات والكاسيت، وأبرزها شركة منصفون، التي يملكها السيد منصور محمد حسن سعد. وهو جهد خرافي مُضْنٍ استغرقني حتى الآن نحو خمس سنوات، اضطررت خلالها لشراء عدد كبير من الأسطوانات السودانية، من خلال وكلاء تعاقدت معهم في مصر، ولبنان، وإثيوبيا، والسودان بالطبع. كما أن البحث عن أفراد أسر مؤسسي الشركات القديمة التي انهارت منذ عقود أمر متعب ومكلّف. ولكن الحمد لله أنني أنجزت المهمة. ومخطوطة الكتاب تخضع للتصميم وتنفيذ الخطوط وتعزيز جودة الصور لدى زميلي الفنان التشكيلي والحروفي العالمي مامون أحمد محي الدين. وآمل أن يصدر الجزء الرابع إما بحلول نهاية 2021، أو مطلع 2022 على أكثر تقدير، بمشيئة الله.
كما أن كثيراً من الموضوعات المتصلة بتاريخ الفن بدأت تنفتح لي مغاليقها، من ناحية الأدلة الصوتية المادية، في الآونة الأخيرة. وهو أمر استدعى كتابة توثيقية قد تقود الى جزء خامس من الموسوعة. ومنها مثلاً تاريخ الأناشيد الوطنية على مر تاريخ السودان الحديث، وإبان حكم الأنظمة المتعاقبة، مدنية وعسكرية. كما أن الافتتان بما يسمى "حقيبة الفن" أثار اهتمامي، وأزعجني كثيراً، فكتبت في هذا الجانب بإسهاب. لأن مما يقعد بنا عن التطور في مجال الغناء والموسيقى هذه الفتنة بأغنية الحقيبة. فهي ليست سوى أغنية مرحلة تاريخية انقضت. صحيح أنه يجب احترامها، وتوقير شعرائها ومطربيها، وإعطاؤهم المكانة التي يستحقونها عن جدارة بين كبار رجالات الأمة السودانية. لكن أن يترك شباب اليوم شواغل إبداع أجيالهم ليهدروا وقتهم في التنقيب عن أغنيات الحقيبة، والمبالغات في تصوير مناسباتها، فهو أمر معيب. ولن يضيف جديداً الهيم، ولا لأغنية الحقيبة.
لكن الحقيبة تعتبر تراثاً غنائياً للشعب السوداني.. هل يجوز لمؤرخ مثلك أن ينتقدها بهذه الشدة؟ وما البديل عنها إذا أسقطها الشباب من اهتماماتهم؟
– الحقيبة جزء صغير من تراثنا الغنائي، وليست تراثنا كله. وفيها إشكالات كبيرة ينبغي أن يتم درسها في إطار ضوابط أكاديمية تاريخية ونقدية صارمة. ولنبدأ بتسميتها "الحقيبة"… فهي كانت الغناء السائد في السودان إبان عقود الثلاثين والأربعين ومطالع الخمسين. ولم يجد أهلها تسمية لها غير تلك التي قرنتها بالحقيبة التي كان يضع فيها الشاعر الإذاعي والدبلوماسي الراحل صلاح أحمد أسطواناته لتقديم البرنامج الذي ابتكره خصيصاً لتقديم هذا النمط الغنائي. يعني لو كان يلتقط الأسطوانات من "دولاب" كانت ستسمى "دولاب الفن"؟!
كما أنها تعاني قصوراً بيّناً من حيثُ افتقارُها الى الموسقة، المتمثلة في الآلات الموسيقية، وشكل الفرقة الموسيقية الذي بدأ يتبلور بحدود العام 1940، بعد افتتاح الإذاعة. ولأنها تعتمد على الميلودية الغنائية من دون حركات موسيقية، فقد حكم عليها ذلك بالميلودية الدائرية. وزاد الطين بلة إغراق شعرائها في المجاراة، مما أدى الى ظهور خمس أو ست قصائد بلحن واحد. كما أن الافتتان بالحقيبة يثير تساؤلاً مهماً: متى سيجد الشباب الحاليون فرصة لإطلاق إبداعهم الخاص بهم ما داموا يهدرون وقتهم في "تجريب المجرب"، والانشغال بإعادة تقديم ما قُدم أصلاً من غناء الحقيبة؟ على هؤلاء الشباب أن يدرسوا بعناية تجارب المجددين في الغناء السوداني- محمد وردي ومحمد الأمين وعبد الكريم الكابلي- ويعرفوا آراءهم حيال الحقيبة، وكيف عالجوا أغنيات الحقيبة التي أدوها. وهل كان أي منهم سيصل الى مرحلة تلقيبه بالإمبراطور إذا كرّس طاقاته للتنقيب في أغنيات الحقيبة؟ هناك مطربون شباب اليوم لا يتغنون بشيء غير غناء الحقيبة! ومع ذلك يجدون من يلقبونهم بالإمبراطور وملك الغناء ونحو ذلك! وهؤلاء زادهم ضغثاً على ابالة مشاركاتهم في برامج من قبيل "أغانٍ وأغانٍ"، التي جعلتهم يرددون الغناء المسموع المحفوظ في مكتبة الإذاعة والذاكرة الجمعية للشعب السوداني… لذلك حتى لو أراد أحدهم أن يخرج من طور الافتتان بالحقيبة لن يجد من يعيره أذناً، لأن وجهه على الشاشات اقترن في أذهان المشاهدين بتغنيه بأعمال الآخرين. وهو ما سميته في محاضرة أخيرة لي "الفتنة بالماضوية". إنها ظاهرة سيئة وضارة جداً، لأنها تصادر حق الأجيال التي خلفت عمالقة الغناء السوداني في أن يكون لهم غناؤهم وموسيقاهم المعبرة عن حاجات أجيالهم. والأسوأ أن كثيراً من هؤلاء المفتونين يشغلهم البحث عن مناسبات تأليف أغاني الحقيبة أكثر مما تشغلهم الأغنيات نفسها. هذه الأغنية قيلت في فلانة وعلانة… ماذا سيجدي ذلك؟ هل له قيمة تاريخية؟ هل بقي عنتر وكثير وجميل في ذاكرة التاريخ بمضمون أشعارهم أم لارتباط أشعارهم بعبلة، وعزة، وبثينة؟
وليسأل ضحايا الافتتان بأغنيةالحقيبة أنفسهم: هل يمكن أن نطور أغنية الحقيبة في هذا العصر بالإتيان بشعراء ينظمون على النسق القديم نفسه؟ هل ستطرب أية فتاة لو غازلها شاعر حديث بأن "ديسها" غزيز، وأن "كفلها كالخائض في الوحل"، وأن "فَصْدَتها جميلة"، أو أن "دَقّة شلّوفتها" ب "الأخضر شفايف" تمثل قمة معايير الجمال؟ هل هناك من يبحث اليوم عن محبوبة مكتنزة باللحم والشحم، ولها "تسعة حزّاز"، و"ديسها غزيز" الى درجة أنه ينام على "رِدْفيها"؟ إذا كان ذلك ممكناً فليتقدم هؤلاء الشعر الماضويون ليطوروا أغنية الحقيبة. وإذا كان ذلك مستحيلاً، فمن العقل والحكمة أن توضع أغنية الحقيبة في مكان يحفظ لها احترامها وماضيها، وقدْر شعرائها وفنانيها في تاريخ الثقافة السودانية. لكن لا وألفُ لا لتقديسها، واعتبارها وحدها التراث الغنائي السوداني. كل شعب من شعوب السودان لديه تراثه الغنائي الخاص به.
لكنك تعيب على المطربين الشباب ترديد أغنيات الحقيبة وأنت تشاهد الشاشات وهي تغص بالشباب الذين يرددون أغنيات الفنانين الرواد الراحلين.. كيف يستقيم الأمر؟
– هذا جزء لا يتجزأ من أزمة المشهد الغنائي الراهن في بلادنا. هل مطلوب أن يأتي فنانون شباب ليرددوا غناء المطربين الرواد الذي تبثه الإذاعة السودانية كل يوم؟ هل مطلوب أن يكون هناك قرين لوردي وأحمد المصطفى والكاشف وغيرهم؟ يكفينا فخراً كأمة أن أولئك العباقرة كانوا بيننا، وتركوا لنا ذلك الأثر الغنائي الجميل. لو كان التقليد مجدياً لكان وردي سجّل أغنيات إبراهيم عوض بصوته، ولكان كابلي كرس حياته لأداء أغنيات أستاذه حسن عطية. ولكان عبد العزيز داود مقلداً لفنانه المفضل فضل المولى زنقار. هؤلاء العظماء أدركوا منذ بواكير حياتهم الفنية خطل التقليد، وعواقب الافتتان بغناء الآخرين. لذلك بحثوا عن أصواتهم الخاصة بهم، وتقننوا في تلحين أغنياتهم. وبذلك تكونت شخصياتهم الفنية التي أضحت خالدة في تاريخ الصوت السوداني.
لكنك يا أستاذ لا تنكر أن أولئك المجددين تغنوا أيضاً بعدد من أغنيات الحقيبة…
– نعم. لكن التغني بالحقيبة لم يصرفهم عن ابتداع الألحان، وتجويد أساليبهم الأدائية المتفردة التي حفظتها لنا تسجيلاتهم لدى الإذاعة ومن خلال ما عثرنا عليه من تسجيلات الحفلات والبرامج الخاصة. ولم يؤد محمد وردي سوى أغنية حقيبة واحدة، هي قسم بمحياك البدر، للشاعر صالح عبد السيد. وقد تفنن في إكسابها قالباً موسيقياً جاذباً، وأدخل تنويعاً في مقاطعها الداخلية، كما قام بتطوير خاتمتها. كل ذلك من دون مفارقة كبيرة للحن الأصلي للأغنية. ولجأ الفنان محمد الأمين الى استحداث قوالب موسيقية شجية لأغنيات الحقيبة الثلاث التي أداها، وهي "جاني طيفو طايف"، و"من قليبها الجافي"، و"بدور القلعة". وعمد الفنان عبد الكريم الكابلي الى تنويع الأداء، وتأليف جمل موسيقية قصيرة وملائمة لأغنيات الحقيبة التي تغنى بها، خصوصاً "غزال الروض"، و"بت ملوك النيل"، و"تم دور واتدوّر". لم يقع هؤلاء الرواد في مصيدة الترديد الببغائي، تحت دعوى التأصيل، وتقديس أغنية الحقيبة الأصلية. لذلك وجدوا وقتاً كافياً لابتكار الألحان لأغنياتهم الخاصة، التي استخدموها لتوصيل رسائلهم الى مجتمعاتهم، والى الإنسانية قاطبة من خلال فنهم الغنائي الموسيقي.
لماذا أنت ضنين في مشاركاتك من خلال المجموعات والمنتديات التي تعنى بالغناء السوداني؟
– جانب من الإقلال سببه انشغالي بما أكتبه. والكتابة عندي تتطلب بحثاً وتوسعاً في الاطلاع، ورصداً دقيقاً للأدلة الصوتية والخطية. والجانب الآخر هو استيائي من اهتمام أعضاء غالبية المجموعات بقضايا تؤخر، ولا تقدّم شيئاً. كمعرفة مناسبات تأليف الأغنيات، وتصدي كثيرين للتوثيق من دون أدوات تجعلهم موثقين ذوي مصداقية. وأود أن أشير الى أن كل ما يقال عن هذا الجانب أو ذاك من تاريخ الغناء لا يعدو أن يكون مصدراً ثانوياً، وليس أساسياً. وبالتالي لا يصلح وحده لتوثيق تاريخ الغناء. من يعكفون على إيجاد مصادر أساسية هم الأجدر بكتابة التاريخ. وهي مهمة تتطلب تأهيلاً معرفياً صارماً، والتزاماً بضوابط تأليفية مشددة، قبل نشر ما يعتبرونه تاريخاً وتوثيقاً. في إطار منضبط بهذه الصرامة يمكن تذليل العقبة الكبرى وهي انعدام مصادر أولية للتوثيق.
هؤلاء لم يتكبد أي منهم مشقة الذهاب الى الدار القومية للوثائق، أو مكتبة السودان بجامعة الخرطوم. ولم يتصل بأمناء أرشيف السودان في جامعة درام البريطانية، ولا القيمين على قسم السودان بمكتبة الكونغرس الأمريكي، قبل أن يطلق ما يعتبره وثيقاً على أثير الإنترنت، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. صحيح أن تشتت السودانيين في الدياسبورا، وتدني المستوى المعرفي لأبناء السودان وبناته اليوم يجعلان مثل هؤلاء الأشخاص يشعرون بأنها فرصتهم لارتداء ثياب المؤرخين والموثقين. لكن ذلك كله لن يصمد أمام محكمة التاريخ، التي تُبنى الأحكام فيها على ما بين يدي قضاتها من مراجع مكتوبة. وإذا ارتفع وعي أعضاء هذه المجموعات، وباتوا أشد صرامة في تقويم ما يكتب لهم من مداخلات، يمكن أن يمثل ذلك خطوة أولى مهمة في الطريق الى بيئة معافاة لتدوين تاريخ الغناء، ونقده، وتوثيقه، والنفاذ منه الى شرفات المستقبل.
هل يعني ذلك أننا لن نجد مجموعات واتساب وفيسبوك المعنية بالغناء والموسيقى ضمن الإشارات المرجعية في بقية أجزاء موسوعتك ومؤلفاتك المرتقبة في هذا المجال؟
– لا أستطيع أن أجيب بالنفي. لسبب بسيط وهو أن هناك مجموعات تحرص على استقطاب أعضاء من شعراء الغناء، وملحنيه، ومطربيه، والصحفيين العاملين في صحافة الأخبار الفنية. أي مداخلات تصدر من هذه الفئة جديرة بالتأمل، والحفظ، وقابلة للاستشهاد بها في ما قد يكتبه المؤلف. أي مؤلف أعني. لكن المجموعات بشكلها الحالي ليست سوى ساحات للمجاملات، والتعبير عن الدهشة والطرب من جميل الغناء، وبديع شعره. ولا غبار أن يتخذ عشاق الغناء مثل هذه المواقع للتواصل في ما بينهم. لكن يصعب أن يجد فيها المتطلع للمعرفة شيئاً ذا جدوى. وأرجو أن يكون حديثي هذا دافعاً لإصلاح تلك المجموعات، وتطويرها لتسهم بدور في تطوير المشهد الفني في بلادنا.
من المعروف أن اهتماماتك بصحبة المطربين والشعراء، وتأليف الكتب التي توثق تاريخ الغناء السوداني أتاحت لك جمع قدر كبير من الوثائق الصوتية، من تسجيلات غنائية، وبرامج إذاعية، وتسجيلات للمقابلات التي أجريتها في سياق أبحاثك وعملك الصحفي… كيف تنظر الى هذه الكنوز التي تمتلكها؟
– صحيح أن العكوف على التدوين أكسبني كنزاً من التسجيلات النادرة. وقد ذكرت في مقدمة المجلد الأول أنني ضربت أكباد الإبل في سبيل اقتناء تلك التسجيلات. وأصبحت عادة عندي أن أشارك في المزادات العالمية التي تباع فيها مقتنيات تخص الفن السوداني. واتسع نطاق ذلك باقتنائي أجهزة التسجيل والصوت النادرة، كالفونوغرافات، والراديو السابق لمرحلة اختراع الترانزيستر، والفونوغرافات المحمولة، ومسجلات الكاسيت، والكاتريدج، وأجهزة "الهاي فاي" بمختلف مراحل تطورها. وتمكنت من اقتناء تسجيلات غنائية برامجية وصوتية تجعلني أقول بكل ثقة إنها أكبر مكتبة صوتية مرئية سودانية خارج السودان. وأقوم حالياً بالإجراءات القانونية لتسجيل شركة في بريطانيا أطلقت عليها "أرشيف الصوت السوداني"، آمل أن أجعل جانباً منها معرضاً للأجهزة التي أشرت اليها، لأنها كانت جزء لا يتجزأ من حياتنا الثقافية والاجتماعية في السودان. المشكلة أن شرائط الكاسيت، والأسطوانات لا تزال تتزايد عندي، وتزحم بيتي من خلال ما أتحصل عليه من وقت لآخر.
هل هو أرشيف غنائي محض أم أنه يشمل تسجيلات تتعلق بمجالات أخرى؟
– طبعاً التسجيلات الغنائية هي الأكبر. لكنه ليس غنائياً فحسب، بل يضم تسجيلات لأبرز القادة الذين تعاقبوا على حكم السودان، في عهوده الديموقراطية والعسكرية. كما يضم تسجيلات الأغنيات السودانية التي صدرت في أسطوانات. وقد اشتريت كثيراً منها من المرحوم ديميتري البازار في منزله بحي بانت في أم درمان. كما تضم قدراً كبيراً من تسجيلات إذاعة ركن السودان (وادي النيل)، باعتبارها مرحلة مهمة في تاريخ التسجيلات الغنائية السودانية لم تخضع للدراسة المتخصصة. وهناك تسجيلات المقابلات الصحفية التي أجريتها مع قادة سياسيين سودانيين، وفنانين، وأدباء، وشعراء.
هناك محاولات شبيهة من خلال مواقع مكرسة لصون تراث الغناء السوداني، كموقع راكوبة الأغاني، وموقع مزيكا سودانية ومكتبة الأغنية السودانية وغيرهما. كيف تنظر الى ذلك؟
– بعضها محاولات جسورة ومحترمة لتحقيق الغاية نفسها، وبأقل قدر من الإمكانات المتاحة. وقد قطعت هذه المواقع شوطاً بعيداً في ترتيب وتبويب أنماط الغناء السوداني، من خلال النوع genre، ومن خلال التصنيف الزمني للمطربين. وحققت هذه المواقع جهوداً مقدرة في صون وتنظيم محفوظات الغناء السوداني. لكنها في الغالب تفتقر الى الضوابط الملزمة بذكر اسم الشاعر، واسم الملحن، وتاريخ التسجيل. كما أنها لا تعنى بالجودة بدرجة كبيرة، لذلك تجد بعض الأغنيات مسجلة بشكل غير جيد تقنياً. وغالب ظني أن ذلك ناجم عن ضآلة الإمكانات المادية، وليس نقصاً في عقول القائمين على تلك المواقع. ويخيل إليّ أنه لا بد أن يأتي يوم في المستقبل القريب لتكون الاستفادة من هذه المواقع مبنية على اشتراط تسجيل العضوية، ودفع مساهمة مالية بسيطة لتسيير الموقع وتطويره. مثل هذا العمل يتطلب تفرغاً يستحيل توفيره في مثل الظروف التي يعيشها السودانيون في الداخل وفي الشتات. ولذلك دعوت- في كتاب لي سيصدر قريباً بعنوان "في هوى السودان"- الى ضرورة أن تتولى الدولة السودانية إنشاء أرشيف للصوت السوداني، مماثل لأرشيف الصوت البريطاني التابع للمتحف البريطاني في لندن. إذا لم نحفظ الصوت السوداني فمن سيقوم لنا بذلك باية عنّا؟
بصفتك صحفياً مخضرماً ظل لك وجودك في المشهد الغنائي والثقافي على مدى عقود… كيف تقرأ الساحة الفنية السودانية الراهنة؟
– أعتقد أن المشكلات التي يعانيها المشهد الفني في السودان ليست وقفاً على السودان وحده، بل لها مَشابهُ في العالمين العربي والغربي. فقد انتهى عهد الأفذاذ من المطربين، والملحنين، وشعراء الغناء. وزادت الساحة الغنائية تشظياً بعد غياب جيل المؤسِّسين، والجيليْن اللذيْن تلوْهُم. فلم تعد هناك أصوات متفردة، ومواهب غزيرة العطاء. وبصراحة ليس ممكناً فصل الغناء وشعره عن التردي الاقتصادي، والأخلاقي، والتعليمي، والاضطراب السياسي والأمني. وانضمت عوامل أخرى لزيادة الوضع الغنائي انحداراً، كالبرامج التلفازية التي تشترط حصرياً على المطربين الشباب ترديد غناء الآخرين. وهكذا أضحت الساحة تفرّخ مطربين ومطربات همهم الأول والأخير "العدّاد"، قبل أن يتم لفظهم في غياهب النسيان. هل سيأتي يوم يتذكر فيه السودانيون مطربات من قبيل مكارم بشير، وعاشة الجبل، وندى القلعة؟ والأكثر إثارة للأسف أن الحكومة المدنية التي جاءت بها دماء الشهداء من أبنائنا وبناتنا سرقها أصحاب البنود الخفية، ولوردات الحرب الأهلية، وعسكر النظام السابق.. فلا اهتمت بالغناء، ولا اعتنت باستنهاض أجهزة الإعلام، ولا حرصت على تعيين وزير وقادة للإعلام من صلب المجال الإعلامي، حريصين على تفجير الطاقات لإعادة إعمار القطاع الإعلامي. لذلك كله ليست هناك ساحة غنائية أو مشهد غنائي يمكن الحديث عنه.
ومن أكثر ما يؤلمني أنني كمستمع قديم للإذاعة السودانية لم أعد قادراً على متابعتها لأسباب عدة: أولها رداءة البث، خصوصاً على الأقمار الاصطناعية. ولانعدام البرمجة الهادفة، وكثرة الإعادة التي توحي بعدم وجود أفكار برامجية جديدة. وكذلك بسبب ضعف المذيعين والمذيعات الذي يتبدى في الأداء اللغوي الفاضح، والخواء الفكري الذي يفضحه تقديم البرامج. ومن أسف أن مسؤولي إدارة الإذاعة وأقسامها لا يسمعون البث، ولا يعاقبون المخطئين. ويجب أن يعترفوا علناً بضياع كنوز من مكتبة الإذاعة كعدد كبير من حلقات برنامج دراسات في القرآن الكريم الذي يقدمه الدكتور عبد الله، وتفسير "سحر البيان" الذي يقدمه الدكتور الحبر يوسف نور الدائم، وكثير من حلقات برنامج "تاريخ جميل" الذي قدمه الشفيع عبد العزيز. وهذا مسلكٌ يمضي باتجاه ما أرادته حكومة نظام "الكيزان" التي سعت الى أن يكون السودانيون شعباً بلا ذاكرة صوتية. هل يعقل أن تحقق حكومة الثورة هذا الهدف للنظام البائد؟ عجائب!
هناك جانب مهم من جوانب تجربتك في تدوين التاريخ الغنائي والموسيقي لم نتطرق اليه.. وهو اهتمامك بالتوثيق من خلال الصوت والصورة في الأفلام التي تعرضها صفحتك على موقع يوتيوب… لماذا هذا الاهتمام؟ وما هي مشاريعك الجديدة بشأنه؟
– اهتممت بهذا الجانب لأنه غير موجود بشكل جاد تحكمه ضوابط الموثوقية، ودقة المعلومات. كما أن كثيرين من الأجيال الجديدة نشأوا على الثقافة السمع-بصرية، وليس على القراءة شأن أجيالنا. فرأيت أن أشاهم في توفير ما أستطيع توفيره لهم. لكن هذا المجال مفعم بالتحديات. وفي مقدمتها عدم وجود أرشيف مرئي سوداني. كما أنني أقوم بهذا الجهد منفرداً. وأنفق على توفير متطلباته من جيبي "المقدود". لكنني استطعت استغلال خبراتي في العمل الإذاعي والتلفزيوني والصحافي لتوفير مادة صالحة للإنتاج السينمائي. وبعد أن قدمت أفلاماً عدة عن حياة الفنان محمد وردي، والموسيقار بشير عباس، والأغنيات التي رددها أكثر من صوت، والغناء الكردفاني؛ أعكف حالياً على إنتاج فيلم عن اعتقال الفنانين محمد وردي، ومحمد الأمين، ومحجوب شريف، والإعلامي ذو النون بشرى في يوليو 1971. وسيكون هذا الفيلم محطة مهمة في مجهوداتي المتعلقة بالتوثيق المرئي المسموع، لأنه يمزج الفن بالسياسة. وهو مزج سينتقده كثيرون، لأنهم يريدون ديمومة فهم الآخرين للتاريخ بالطريقة التي يتولون هم تفسيرها. والجديد في هذا الفيلم أنه سيكون عملاً احترافياً متقناً لأنه سيُنتج في مُحتَرَف فني متخصص، وبأجهزة متقدمة، وبمشاركة فنيين مؤهلين. وأدعو الله أن يخرج هذا الفيلم بالطريقة التي أحلم بها ليغريَ آخرين بالانضمام الى هذا الضرب الفني من التوثيق التاريخي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.