قرأت ذات مرة أن فيلسوفاً ملحداً ذهب الى أن (الظروف هي الله)… ورغم نفورنا من وجفوتنا لمقولته عقائدياً. إلا أنها مشبعة بالحقيقة إنسانياً. وهي بصورة أو بأخرى يصدع بها البسطاء من أهلنا. حين يضرب الواحد منهم كفاً بكفٍ مستسلماً… يقول في انهزام المقهور (الظروف حكامه)… وما الحكم الا لله. كم من عاشقين ذابا حباً. حتى كادا يمتزجان في روح واحدة. يخططان لعش يجمعهما… يتزوجان في الخيال وينجبان البنات والبنين. يختاران أسماءهم!! يهب عليهما إعصار الظروف.. يعصف بأحلامهما. يفرقهما أيدي سبأ. وقد لا يلتقيان بعدها أبدا. وكم من حالم يبني قصوراً في الهواء. ويسعى لانزالها الى الأرض واقعاً. تلاقيه في مساره الحثيث كتيبة الظروف مدججة بكامل أسلحتها. تهدم قصوره على رأسه دون رحمة. ينتهي به الحال هائماً على وجهه في الأزقة والشوارع.. ضحايا الظروف يملأون الطرقات. عندما تلاقي (شماشياً). أو مدمناً أو مجنوناً يكلم نفسه. لا تقسو عليه في ظنك. هم مثلي ومثلك لا فرق.. سوى أن الظروف (نخشمتهم). أخذت مرةً (ركشةً) من بيت شقيقي بمدينة (المهدية)!! اسمها الأحدث يجلب لي الأسف والاحزان من حيث أدري ولا أدري!! اسمها هذا الذي اخترته لا يخلو من حزن لكنه أخف. لماذا كل شي فيك يا وطني أضحى حزيناً يصيب النفس بالأحزان؟! لكن ذلك ليس بيت القصيد…. أخذت مقعدي علي يمين السائق. شاب بدا لي أنه في أواخر العشرينات. نحيل الجسم.. منكوش الشعر. شاحب الوجه. به بقايا وسامة في طريقها الى الزماع.. لاحظت في يديه بعض ارتعاش ملفت. كالعادة بدأنا نتبادل الثرثرة. بمجرد أن بدأ الحديث. اقبلت عليه أتبين وجهه مرةً أخرى. تلك ليست الطريقة التي يتكلم بها سائقو الركشات. مع احترامي الشديد لهم ولكسبهم الحلال. لكن معلوم أن لكل فيئة في المجتمع أسلوبها في اختيار المفردات. أذهلني الشاب باللغة الرفيعة التي تنساب من فيه. قيل أن العربي كان حين يلاقي عربياً آخراً في متاهة الصحراء. بعد التحية والسلام. يبادر أحدهما الآخر (تكلم يا أخا العرب. دعني أراك).. وقد تكلم الشاب سائق الركشة فرأيته. رأيت شاباً.. راقياً.. ذرب اللسان.. يأخذ حديثه بتلابيب السمع. رغم انف الشحوب و (البشتنة) التي تبدو عليه.. ورغم قميصه المشروط عند الكتف.. ومنطلونه المهلهل (المسهوك) الذي تكاد ترى ما تحته. وحانت ذروة دهشتي… عند زاوية الانعطاف نحو منزلي. كانت تقف سيدة بيضاء مع طفلها. واضح أنها كانت تنتظر وسيلة نقل. أشرتْ للشاب. هدأ سرعته.. قالت السيدة مستعينة بلغة الاشاره (كومينق باك)؟ هل سترجع؟ بلغة انجليزية حاولت تخفيف نطقها. انبريت لأفهمه سؤالها. فاذا بالشاب يجيبها بمنتهى الطلاقة بانجليزية رفيعه راقيه. اقبلت عليه أتبينه مرة أخرى من جديد . أمام البيت. قلت له (تأذن لي أسألك؟).. قال وعلى ثغره ابتسامة مسكينة (انا عارف حتسألني من شنو!! إذنك معاك)… قلت (بالله عليك يا ولدي من أنت؟ وماذا أنت؟) راح يحكي بعفوية.. (خريج جامعة الخرطوم.. كلية الاداب.. تخرج قبل خمسة سنوات.. حفيت قدماه.. وراء وظيفة.. وسفارات دول الخليج… فكر في الهروب عبر زوارق الموت لأوروبا… لكن أمه بكت كثيرا… لغى الفكرة..) ثم ختم (وأهو يا عمي زي ما انت شايف)… قلت (عفواً… هل تعاني من مشكلة صحية؟ ما هذا الارتعاش في يديك؟). أجاب ببساطة أذهلتني (المخدرات يا عمي)…. خنقتني العبره… ضاقت الدنيا في وجهي.. اريد ان أهرب.. حرام… والله العظيم حرام… يا وطن البؤس حرام… ياناس حرام… ياهووووي انتو سامعني؟ حرااااااااااام….يا كل من أجرم في حق هذ الشاب الجميل… بالله كيف تنامون؟….. كيف؟ مددت له أجرته…. لم يحسبها… ربت على كتفه… كدت أقبل رأسه… (مع السلامه عمي)…… مضى مستسلماً لحكم الظروف….. انحدرت على وجهي دمعتان.