علي يس * "طَلَقا" – أي "طلقها" كما تُنطق في عاميتنا السودانية – هو اسم الدلع لأخينا "طلق النار" ، وهو رجُلً لا غُبار عليه ، سوى إنَّهُ إذا غشِي أي مجلس من مجالس أهل الحي ، و أيَّاً كان موضوع حديث القوم ، فإنَّ تدخُّلَهُ بالحديث ولو بكلمة عابرة ، يعْتَبَرُ حَدَثاً جديراً بإعلان "حالة الطواريء" في الحي كله .. فالرجُل – دون أي قصدٍ منهُ – يُلهِمُهُ الله كلاماً تقوم لأجله قيامة القوم ، وتعلو أصواتهم ، ثم شتائمُهُم ، ثُم "عكاكيزُهُم" .. وحين يكون الوقتُ مُناسباً لحصر الخسائر، يلتمس القوم طلق النار بين ضحايا "الأذى الجسيم" فلا يجدونهُ ، ثُم يبحثون بين أصحاب الجراح الخفيفة والخدوش ، فلا يجدونهُ أيضاً ، فيسألون عن شهود الحادثة ، فلا يكون بينهم "طلق النار" .. لتكتشف أن طلق النار لم يفعل أي شيء مخل بالقانون سوى أنَّهُ قال كلمتهُ ومضى إلى بيته حتى قبل أن يسمع الجواب ، لينام (ملء جفونه عن شواردها ** ويسهرُ القومُ جَرَّاها ويختصموا) سهراً واختصاماً تتدخَّلُ فيه الشرطة غالباً .. هذا ، وعند التحقيق في الحادثة ، لا يستطيع أيٌ من المشاركين في المشاجرة أن يتذكَّر السبب الذي أدَّى إلى ارتفاع العكاكيز ، فقط يكُونُ آخر ما يستطيعُ أن يتذكَّرَهُ "مبرُوك" ، الذي ربطوا رأسه بضمادٍ يغشى عينهُ اليُمنى التي أُصيبت في الحادثة ، قولهُ : * والله يعني .. النصيحة كدي يا جنابو .. هو طلق النار جا ولقانا قاعدين نتحدث في موضوع بابور الموية ، قال له كلمة كدي و مشى ، هسع ماني متذكرها ، علا الكلمة دي ياها سبب المشكلة !! * بينما يضحك عم "مضوي" ، الذي شهد المشاجرة وحاول إخمادها بشتَّى السُّبُل دون طائل ، يضحكُ قائلاً : * والله يا جناب البوليس ديل وليدات راسهم خفيف ساكت ، أنا جيت داخل الديوان لاقاني طلق النار مارق ، وبعد ما دخلت حتى قامت الحرابة ، يعني طلق النار ما ليهو دعوة بيها .. * اكتشفتُ ، لاحقاً ، أن لكُلِّ حيٍّ ، ولكل مدينة ، بل ولكل حكومة (طلق نارها) الخاص ، المُوكَّل بإثارة المشاكل فيها بطريقةٍ هي غايةً في البراءة ، وبعيدةً كُلّ البُعد عن أي قصدٍ إجرامي .. هذا ولم أكُن في البدء – في ذلك الحي الذي سكنتُه قبل ثلاثين عاماً – أرى في ذلك الرجُل متين البنيان ، نصف الأصلع ، الذي يتحدث ببطءٍ مثير للغيظ ، ويُشيرُ بإصبعه عند نهاية كل كلمة ، شخصاً يستحقُّ كلَّ ذلك الإهتمام والحذر الذي يُبديهِ أهل الحي تجاههُ .. حتَّى قادتني الصدفة إلى "ديوان حاج الزاكي" – شيخ البلد الذي ما زال يحتفظ بلقبه حتى ذلك الوقت ، أي بعد مضي أكثر من عشرين عاماً على حل الإدارات الأهليّة – وكان وجوه الحيِّ مجتمعين في ذلك الصباح ، لمناقشة بعض شؤون الحي ، وكانُوا في انتظار "رئيس اللجنة الشعبيَّة" وأركان حربه ، الذي سبقهُ في القدوم (طلق النار) فسلّم على القوم بحميميَّة، ثم جلس .. وبعدها بقليل جاءت لجنة الحي برئيسها ، فما إن فرغ القوم من السلام حتّى انبرى "طلق النار" قائلاً بمسؤوليَّة كاملة : * يا شيخ الزين (يعني رئيس اللجنة الإداريَّة) نحنا قاعدين راجنَّكُم من الصباح ، والرجال ديل كلهم الشايفهم قدامك ديل متفقين إنكم كلكم حراميّة .. أكلتو حق الموية وحق الكهرباء ، وهسّع راجنَّكُم تورونا القروش وديتوها وين !!؟؟ * قبل أن تخرُج شتائم الزين الموجهة إلى حاج الزاكي ، كان طلق النار الجالس بجوار باب "الديوان" قد خرج .. أما ما حدث بعد ذلك ، فقد شهدتُه .. قال الزين وقد احمر وجهه وارتجفت أعضاؤه وأزبد فمُه : * نحنا يا حاج الزاكي .. نحنا تقولوا علينا حرامية وإنتو قاعدين في الضُّل ومن جبنة لي جبنة ومن شاي لي… * حاج الزاكي – الذي فوجيء تماماً بما قاله "طلق النار" .. فقد صوتهُ ، واستطاع بصعوبة أن يجاري قذائف الزين الغاضبة : * يا الزين ياخوي تسمع كلام الأهبل ده؟؟ والله العظيم وعليّ بالطلاق زول فينا جاب سيرتكم ولا سيرة الحرامية مافي .. * غير أن الوقت كان قد فات ، ولم تفلح فيه توضيحات القوم ، ولم يعد فيه من مجال للدفاع ، بعد أن انطلقت معظم الحناجر من الجانبين بالشتائم والإتهامات بالسرقة والنهب .. ما حدث بعد ذلك هو أن الشتائم تحولت سريعاً إلى عكاكيز مرتفعة ، واستطاع حُكماء الحي بصعوبة اختصار الخسائر إلى عشرة جرحى جراحاً خطيرة ، وثلاثة مكسوري الإيدي واثنان بجراح خفيفة ، ولا أحد من القوم بعد ذلك استطاع تذكر الكلمة التي قالها طلق النار !!.. * و الآن ، يا وُجوه الخير ، أرى في حكومتنا "الملتَّقة و الملفَّقة" هذه ، (طَلَق نار) "سيوبر" ، بدأ يفرض وجودهُ ب "هترشات" خالية من المعنى ، لكنها في الوقت ذاته ، شديدة الاشتعال.. فاحذروا يا قوم… المواكب