كان محمد طه القدَّال مُغرقاً في (شعبية) التعبيرعن ذاته الإبداعيه ، ولم يتوانى عن رفع القُبعات سِراً وجهراً تعبيراً عن إجلالهِ لكبرياء البُسطاء كل ما سنحت لهُ فُرصةً (إلتهاء) مطارديه من أعداء الناطقين بلسان الحق والحُرية والعدالة ، آلاف الكلمات ومئات القصائد التي عضَّدت إحساس البسطاء بمكانتهم في ضمير الشعر الوطني ، عبر رايةٍ هاج خفقانها منذ سبعينيات القرن الماضي وقف تحت ظلها القدَّال ومحجوب شريف ومحمد محي الدين ومحمد بادي ، ثم حين إستوعب الوسط المُثَّقف المستنير تلك (الفوارق) الواضحة والساطعة في أساليب تناول الإبداع الشعري بين أولئك الفطاحلة ، لم يشاءوا أو لم (يستطيعوا) ومعهم مشاهير النُقَّاد (سجنهم) في قوالب التصنيف التكنيكي لكتابة القصيدة ، فأصبحوا بذلك جميعاً يشكِّلون مدرسة شعرية مختلفة التصانيف في أنماطها الشكلية والضمنية ، لكن أهم ما كان يميَّز أنماطهم الإبداعية هو بلا شك (الإلتزام المُطلق بموضوع واحد للقصيدة العامية) وهو بلا شك كان دائماً الوطن وإنسانهُ المسحوق بإستبداد الأنظمة الشمولية. القدَّال كان من أبكار مؤسسي منظومة (إحترافية) النضال عبر الإبداع النزيه في السودان الحديث ، فهو وحسب ظني قد أودع كل أحاسيسهُ الشخصية من عواطف وأحداث وأفراح وأحزان ورؤى سياسية وأخلاقية في بوتقة القصيدة الوطنية ، شأنهُ شأن محمد الحسن حميد ومحجوب شريف ، فرسالية القصيدة وتحويلها إلى (أداة) نضالية فعَّالة قادرة على مُقارعة الشموليات بإستبدادها وجبروتها ، كانت آنذاك فكرةً (خيالية ومثالية) تدعو كل مُدَّعي التعقُّل إلى إستصغارها والإستهزاء بها ، خصوصاً إذا كان المُستهدف هو (تحريك) روح الثورة في جموع البُسطاء ، لكن المُفاجأة كانت أن القدال ومحجوب شريف وحميد ، إستطاعوا أن يُشكِّلوا (نشيداً) وطنياً واحداً في وجهتهٍ الوطنية المبدئية التي أسفرت عن العديد من القُدرات المُذهلة في مجال تحريك المياه الراكدة في بحور المد الثوري ، وهذا ما يُفسِّر ما تعرَّض لهُ القدَّال من مطاردات وإعتقالات وتعذيب وتغريب معنوي ، كلما إرتجفت الأنظمة الشمولية إبان نظامي مايو ويونيو الأسودين ، بعد إدراكهم أن نداءات القدَّال وصحبهِ لا محالة واصلة ومُستقرة ومستوطِنة في قلوب التَّواقين للعدالة والحرية والمساواة من شرفاء السودانيين. ثم أيضاً كان القدَّال من (أبكار) مؤسسي منظومة (المُبدع المُلتزم بشعاراته المبدئية) ، فلم يتخاذل ولم يُساوِم ولم يرتاد مُستنقعات (الإرتزاق) من مُجرَّد (التعديل) الشكلي في إيصال مضامين الفضائل التي تُنادي بها قصائدهُ الوطنية والإجتماعية ، ليحصل على مالٍ أو منصب أو حتى (راحة بال) تُغنيه من عناء المُطاردة والتضييق على مشروعهِ الإبداعي والمعيشي والفكري ، وقد حاولت جماعة الإسلام السياسي الموبوءة بالإعتقاد في (آحادية) الفكر الإنساني ، وصمهُ وغيرهُ من رفقاء الإبداع الوطني بالإنتماء إلى آيدلوجيات يسارية لم ينكروها بل أعلنوا عبر قصائدهم (التشرُّف) بالإنتماء إليها ، في محاولة لتلجيم صوتهِ وتحجيم قُدرة منتوجه الإبداعي على الإنتشار ، فإنقلب السحرُ الساحر حين أسفرت مطاردتهم لإبداعه النبيل عن المزيد من الإلتفاف الجماهيري حول القدَّال وشعرهُ الثوري ، ولم يمنع قصيدته من الإنتشار إغراقها في المفردة العامية الأصيلة التي كادت أن تقف على رصيف الإندثار ، فإلتف حولها الشيوخ والشباب رجالاً ونساءاً وفاءاً لمبادئها ونزاهتها وإنتماءها لتطلُّعات الُبسطاء ، ثم إنحيازاً إلى (إلتزامية) مُبدعها بتطبيق تلك المباديء والقيَّم والأخلاقيات في حياته الشخصية التي كانت محصورةً في الوطنية الشجاعة والتواضُع المُجمَّل بالكبرياء والوفاء للبًسطاء والدفاع عن حقوقهم المهضومة ، ألا رحم الله شاعر السودان المُعلِّم القدوة محمد طه القدال ، فقد جف اليوم في بلادنا مِداداً لقلمٍ كان من أفتك الأسلحة التي قارعت الظلم والإستبداد والتجبُّر.