عبد الله الشيخ كل حدث يلامس الغرابة ويحتويه الغموض، يخرج بالضرورة إلى فضاء الميتافيزيقيا. الأُسطرة تكاد تحتوي أحداث 19 يوليو وتنقلها من باحة الواقع إلى فضاءات التفكير الرغبوي، والأسباب لذلك كثيرة، منها الصمت الرسمي، وعدم الافراج عن الوثائق – بل حتى – عدم الكشف عن قبور الضحايا. خمسون عاما، ولم تزل التساؤلات تترى.. لا وثائق الخارجية البريطانية التي يُفرج عنها كل ثلاثين عاماً لا تشفي الغليل، ولا الحزب يشرح التفاصيل. عشية انقلاب مايو 1969 كان الأستاذ محمود محمد طه يقول في ندوة بالأبيض، في إشارة إلى الدستور الإسلامي الذي كانت القوى الطائفية تسعى لتمريره من داخِل الجمعية التأسيسية: " هذه الجهالة التي تلتحف قداسة الإسلام لن تمر، والآن البلد جاهزة، ليقفز عسكري في أي لحظة ليستلم السلطة". ثم عاد إلى مدينة واد مدني بعد وقوع الإنقلاب وعقد جلسة يوم 28 مايو 1969 م بمنزل الأستاذ جلال الدين الهادي، قال في تقدمتها ما معناه، أن قائد الانقلاب نميري في الحقيقة جاء في ساعة الصفر، وأنقذ الشعب من فتنة الدستور الإسلامي المزيف، وسيستمر في تنفيذ مهام روحية، وهي كسر شوكة الطائفية وتقليم أظافر الشيوعية، ثم سيقوم بعمل في التنمية الاقتصادية، ويقيم بعض المشروعات، وبعدها سيبدأ في التراجع وأخطاؤه تتكاثر، وتبقى ظاهرة للناس، وقتها سنبرز نحن لمعارضته وسيسقط على أيدينا". عندما وقع إنقلاب 19 يوليو ، أطبقت الحيرة على بعض الجمهوريين، فسأل أحدهم أستاذ جلال،الذي كان يقود حملة للدعوة وتوزيع الكتب بمدينة عطبرة.. سئُل جلال كقيادي جمهوري عن أقوال الأستاذ محمود التي قيلت في بيته.. سئل عن أن مايو ستعمل، وستعمل، وستعمل... إلخ. وازدادت الحيرة عندما ظل هاشم العطا مُمسِكاً بزمام السلطة لليوم الثالث.. كان السؤال هو: هل الكلام اللي قالو الأستاذ في بيتك – يا جلال – اتغيّر، واللّا هاشم العطا ده حكايتو شنو؟ أجاب جلال، بالّا يؤخذ حديث الاستاذ بصورة حرفية، لأن الأُستاذ "قد يكون قاصد العساكر، وليس بالضرورة نميري بالتحديد".. لكن بعد لحظات عادت مايو، واستمرت في برنامجها حتى "هانت النفس" فتصدى الأُستاذ للمواجهة، و قدّم للفداء روحه، بنفسه.. وكان عبد الخالق – بعد نجاح الانقلاب – قد طلب دعماً من العراق، لذلك كانت الخرطوم في صباح الأربعاء 21 يوليو تنتظر هبوط طائرة الشهيد محمد سليمان الخليفة عبد الله التعايشي، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، والتي أقلعت من بغداد تقل وفداً من قيادة قطرالعراق، علي رأسهم الرفيق حماد شهاب، ووفد فني عسكري، لفتح وتحريك الدبابات الروسية في الجيش السوداني.. سقطت الطائرة – في البحر أو في الرمل – ولم يُكشف سر سقوطها حتى الآن! أغلب التحليلات تلتقي علي أن طائرة النّجدة العراقية أُسقِطت في صحراء الربع الخالي بصاروخ أُطلِق من إحدي القواعد الأمريكية في الخليج. وضمن التآمر على الحركة التصحيحية، كان السادات مُحرِّضاً لحجز طائرة الشهيدين، بابكر النور وفاروق حمدا الله في طرابلس، ليُعدِمهما نميري في الخرطوم طمعاً في تقوية حلف الوحدة الثلاثية بين مصر وليبيا والسودان، تحت زعامة خليفة عبد الناصر حينها، العقيد مُعمّر القذافي. هكذا تكاملت حلقات التآمر علي ثوار 19 يوليو، بعد أن رفع الإتحاد السوفيتي يده، و إتّجه كليّةً لدعم جناح أحمد سليمان ومعاوية سورج المؤيد لمايو.. ولكن، من يمتلك الحقيقة؟ من أسقط طائرة الرفيق محمد داؤود الخليفة، وما هو دور (البعث) في ذاك الحراك؟ المواكب