مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي يلتقي السيدة هزار عبدالرسول وزير الشباب والرياض المكلف    وفاة وزير الدفاع السوداني الأسبق    بعد رسالة أبوظبي.. السودان يتوجه إلى مجلس الأمن بسبب "عدوان الإمارات"    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو تفكيك خطاب ومشروع رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك 1-6
(فرضيات ومنطلقات الخطاب الفكرية وتجلياتها)
نشر في الراكوبة يوم 09 - 09 - 2021

"يالها من مسافة شاسعة تلك التي تجثم بين طلاوة الخطابة من جهة وأوجاع الإقتصاد السياسي للخطاب"
(من وحي عبارة قديمة للصحفي الاسكوتلندي الاصل جيمس سكوتي في تمييزه بين الخبر والسوسيولوجيا)
(الكلب إنبح
والجمل ماشي)
الضحك فرقع
والجرح إنتح
العذاب إصرخ
والملك إفرح
الجزم بالكوم
والقدم حافي
البلد مسروق
وسارقو بالكاكي
هاشم صديق (يونيو 2021)

إستهلال:
نقصد بالخطاب هنا مجموعة التصورات وتنزلاتها التي تشكل الفضاء المعرفي لفرد أو مجموعة بشرية فى سياق تاريخي واجتماعي وسياسي محدد. لسنا بصدد وجود وعي زائف أو غير زائف ، كون كل وعي هو خطاب.
جوهر التناقض الرأسمالي ، حسب توماس بيكيتي حامل جائزة نوبل، هو أن معدل الربح (عائد رأس المال) ظل أعلي بكثير ، ولفترات طويلة جداً، من معدل نمو الدخل والإنتاج ، مما يعني أن الثروات التي تراكمت في الماضي لدى الراسماليين تنمو بمعدلات أعلي من الإنتاج والأجور. هذا يشكل تناقض منطقي أساسي وعقبة أمام ثوابت العملية الديموقراطية من حرية ، مساواة وإخاء جاءت بها الثورة البرجوازية. تبعاً لذلك تحول رجل الأعمال الراسمالي الي ريعي وظل يتسيّد علي من لا يملكون الا قوة عملهم. هذا التناقض مضر بمستقبل العملية الإنتاجية ومصير السيرورة الديموقراطية في الشمال الكوني الذي راهن عليه كليا د. حمدوك وتكنوقراطه في احتفائه المطلق بالإنفتاح الإقتصادي والتعويل كلياً علي الخارج حتي غشته غاشية الأزمة. الأخطر من ذلك أن حمدوك راهن علي شراكة نموذجية بين المكون العسكري/المليشي حامل الدولة العميقة المفروض أن تتم تصفيته حسب ثورة ديسمبر 2018. أصبح المكون العسكري ومعه قلة رأسماليين تجاريين طفيليين ليسوا بصفة رجل الأعمال الذي تحوَل الي ريعي كما في الشمال الكوني ، وانما أصبحوا ساسة-رجال أعمال من طينة النهب والتطفّل والمحسوبية والتهريب والمضاربات وبالضرورة أن هذا الإستغلال المطلق البشع لابد لإستمراره من أيدولوجية مطلقة عنيفة دموية كما نبهنا سمير أمين ؛ وأن ورطة هذا التراكم في الشمال والجنوب الكونييْن يتمان علي نطاق عولمي كبير وفاسد ومفسد في آن. ضمن هذا المشهد يصبح رهان حمدوك علي مزدوجتين آيديولوجيتين بإمتياز هما "الإنفتاح الإقتصادي والشراكة النموذجية مع العسكر/المليشيا" أطروحة كارثية مدمّرة فاسدة زهوقا ، وكمن يود أن يريد القفز فوق حفرة بإجراء قفزتين معاً في الهواء. وكانت ثالثة الأثافي أن حمدوك أعلن منذ بدء عهده أنه "رئيس وزراء للجميع" ناسفاً ونافياً حقيقة الشرعية الثورية التي حملته ، ومعلناً أيضاً أنه براغماتي (بوهم أنه خارج الآيديولوجيا)؛ والجميع يعلم أن البراغماتية هي الإبنة الشرعية للامبدئية. لقد حق القول ، ضمن هذل المشهد المفهومي والفكري، أن رئيس وزراء الثورة قد إنتمي إنتحارياً الي ذلك القسم من الطبقة الوسطى التي يممّت شطرها نحو التحالف مع المستثمرين الأجانب والشركات متعددة الجنسيات والمصرفيين الطفيليين الإسلاميين والمصالح العسكرية الأمنية والمليشيات التي نهبت موارد الدولة وشرائح من حركات الصراع المسلح اختارت مشروع الهبوط الناعم وأحزاب روّجت للهبوط الناعم حتي فاجأتها ثورة ديسمبر 2018 فإلتحقت سريعاً بالثورة وتسنّمت قيادتها. يُقرأ هذا الحراك كجزء من مشهد تخثّر المشروع الوطني مابعد الكولونيالي والإفساد الإمبريالي لحركة التحرر الإفريقية التي حملت السلاح. لا غرو أن مدرسة الجماهير الثورية السودانية تمترست فكرياً وعملياً حول مفهوم النضال السلمي المدني ، نضال قوامه شعار حرية مقرون بسلام وعدالة اجتماعيْين ، فهنيئاً لها.
مقابل مدرسة التكنوقراط الكمبرودارية هناك تحليل نقدي للاقتصاد السياسي يراهن علي مشروع وطني ديموقراطي ملء سيادته الوطنية ، مشروع يعرّي استراتيجيات الإسلام السياسي الذي تغوّل علي القطاع العام في السودان وفى ذات اللحظة يقارع التكنوقراط الجدد الذين يهادنون تلك القوي ويخشون سطوتها دون الرهان علي سطوة الثوار الباسقة. زبدة القول أن هذه المدرسة تنام متعريةً في مخدع العولمة والإنفتاح المطلق. وحرّيٌ بالتحليل النقدي هنا توضيح الشُقّة بين التكنوقراطي والمثقف ، كون المثقف "هو حامل المعرفة النقدية المحِّررة" التحريرية، التي لم تكن قاصرة على "المعرفة العقلية وحدها" ، بل تتعداها وتُسهم في تنمية "ملكات الشعور، والوجدان، وتنقيها من أدران الأنانية ضيقة الأفق" ؛ لتصَّب في "المجرى العام للتحرر الإنساني" الذي كان ينشده كارل ماركس. ويعني غياب هذه الأبعاد التحررية من وجهة نظر المرء أن حامل المعرفة أياً كان تأهيله الفني والمعرفي يكون "تكنوقراطياً لا مثقفًا". (راجع عبد الله بولا وأحمد ابراهيم ابو شوك).
هكذا رويداً رويداً تتعري الحقائق الاجتماعية السياسية الإقتصادية الصادمة أمام ثوار ديسمبر الذين واللواتي صمدن أمام البارود لمدة ناهزت خمسة شهور بعد ثلاثة عقود من التجويع والابادات والدماء والدموع والفساد.
نزعم هنا أن رئيس وزراء الثورة قد تعرّي ظهراً وبطناً كتكنوقراط مهادن ورحيم بالفلول والطائفية حتي تعيينهم في أعلي المؤسسات ، أو التهاون في تطهير الخدمة العامة منهم ، وملاحقة رؤوس أموالهم الخ. والآن يحاول رئيس مجلس الوزراء إدعاء مصارحة الثوار (لجان وتجمع مهني وأحزاب) بعد عامين بعد أن تجاهلهم كثيراً وهم يتجمعون أمام مكتبه حاملين مطالب ثورية كونهم ليسوا في قائمة أولوياته. يبدو أنه تشجّع بعد أن اشتغل علي لعبة عسكر وحرامي "الشراكة النموذجية" التي مطلعها: ناس أحمد يبقوا العسكر وناس سامي يبقوا حرامي. أقول ذلك ليس تحاملاً أو تجاسراً علي د. عبد الله حمدوك الذي عرفته شخصياً وراهنت علي ريادته، كون أطروحتي حوله هنا لاعلاقة لها بهوياته الأخري وشخصيته كونه بان افريكانيست حقيقي ، ودبلوماسي بارع ، ورجل متواضع ذو عقل لامع ومنضبط.
كان يتعيّن علي رئيس مجلس وزراء الثورة أن يعمل "بقوة علي استرداد الأموال المختلسة ومحاكمة المختلسين، وإعلان حرب شرسة علي الفساد ، واستخدام كل القوة الممكنة لإغلاق جميع الظواهر الأخري للاقتصاد المختطف (مثل التهريب) ووضع مئات الشركات العسكرية والأمنية تحت سيطرة وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي. ولكي تتحقق هذه الإجراءات كان يجب استخدام قوانين وقواعد الطوارئ التي تم إعلانها في ظل الشرعية الثورية وكان هذا ممكناً من خلال الإستفادة من الدعم الشعبي الهائل الذي كان من الممكن أن يسكت الأصوات المترددة والمعارضة" من بقايا النظام القديم داخل وخارج السلطة (راجع عباس عبد الكريم).
ضمن هذا المشهد يتخلّق تحالف جديد من عناصر الدولة العميقة الحاكمة (طبقة جنرالات المؤسسة العسكرية من أسميهم رجال الأعمال-الساسة) وفلول الإسلام السياسي داخل وخارج تلك المراكز العسكرية والأمنية والمليشيات من حزبيين رجال أعمال فى المضاربات والسمسرة والمرابحات وغسيل الأموال والتهريب والذهب والعقارات من جهة ورجالات الراسمال التجاري الجدد الذين تبنوا الثورة من قبل واجهات الهبوط الناعم السياسية لملء الفراغ التجاري الطفيلي. لقد وجد هؤلاء في سياسات د. حمدوك ضالتهم حيث مهّدت لهم المحفظة وأبقت علي الإستثمارات العسكرية والأمنية والميشيات التي نهبت موارد الدولة وخصخصتها علي مقاس الجنرال الجديد (البزنس مان) ، وكلو من دافع الضريبة غير المباشرة ، وهاك يا دولة الجبايات التي قنّنها حمدوك بما أسماه في مبادرته ب "الإنفتاح الإقتصادي" واعتبره إحدي إنجازاته كما سلام المحاصصات والمسارات. أما البقية من خطابه ومبادرته التي تلت الخطاب علي عجل كانت خطاباً إعتذارياً مسرحياً وضع فيه نفسه في برج عاجي خارج الصراع ووصف لأول مرة مشهداً لأزمة رغم أنه ذكر قبل يومين من المبادرة انه يرى ضوءاً في آخر النفق ، نفق الأزمة الشاملة.
إذن نحن علي شفا حفرة من منهج واستراتيجيات وقرارات الحكام الجدد: رئيس مجلس الوزراء وجماعة من المستشارين والمؤسسة العسكرية وبقية قوي الحرية والتغيير وأحزاب البعث والأمة والإتحاديين والمؤتمر السوداني والحركات المسلحة التي انسلخت من قوي الحرية والتغيير (أو سرقت منبرها) لتدخل بهو "الطبقة الحاكمة الجديدة المتجددة" عبر بوابة مسرحية سلام جوبا للمحاصصات والمسارات. وضعت عبارة الطبقة الحاكمة الجديدة المتجددة بين قوسين للإشارة الي ان تلك القوي لغت أهم بند فى الوثيقة الدستورية الذي حرّم ضمن روح الثورية الشرعية والتغيير الناجز أن يترشّح وزراء وحكام المرحلة الإنتقالية في الانتخابات القادمة ، وبذلك تكمن طفيلية وهوان سلام جوبا أنه منح حكّام المرحلة الإنتقالية فرصة أخري لمواصلة التمكين الطبقي السايسي الجديد!! إذن نحن إزاء سيرورة تعيد إنتاج الراسمالية الطفيلية التي كانت تغطّي عري إستغلالها البشع بأيديولوجية دينية الي ساسة رجال أعمال جدد ينتمون الي عشيرة حشرة "أم جُركم" التي تريد أن تعيش خريفين، ويودون ممارسة البِغاء الطفيلي للبقاء أكثر مدة ممكنة كحكام ممتازين. كانت وثبة سحرة الهبوط الناعم تلك مؤشر لإحدي تجليات عمليات سرقة ثورة ديسمبر2018.
أزعم هنا أن رئيس مجلس الوزراء حمدوك جزء أصيل من هذه التوليفة الجديدة التي تتخلّق أمام ناظرينا رغم أنه أعاد أنتاج نفسه ليبدو شفيفاً وصادقاً كطفل أمام الثوار وأن هناك أزمة شاملة مركّبة لم يشارك فيها ؛ أزمة في جميع الفضاءات: مدني-مدني، مدني-عسكري، عسكري-عسكري. ظاهر المبادرة أن رئيس مجلس الوزراء حمدوك يود التخلص من رهانه الفكري والمنهجي والآيديولوجي (نعم الأيديولوجي) حول قضيتين أود تفكيكهما ونقدهما ، هما "الشراكة النموذجية" التي راهن عليها وباعها في المحافل الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والإتحاد الأوروبي) والمحافل الأقليمية بما فيها دولة الأبارتايد ذات نفسها من جهة، والإنفتاح الإقتصادي كما طرحه حمدوك في مبادرته كإنجاز يخص حكومته من جهة أخري. هذان هما زعمي الرئيس في هذه الورقة وبصدد رصده وتفكيكه في هذه الورقة عبر استخدام منهج أسميه منهج الظل.
كما أن إحدي إستهدافات أطروحتي هو أن الرهان علي الإنفتاح الإقتصادي فى ظل العولمة اللئيمة دون ترتيب البيت السوداني الداخلي والإصغاء الي مطالب الثوار الحقيقية التي ثاروا من أجلها مضرة للغاية بالعملية الديموقراطية القادمة وبقيم العدالة الإجتماعية التي هي عمود النُص وعماده أو قل الأمينة والشِعْبة التي تسند العملية الديموقراطية.
نتناول هنا متلازمتي الاقتصاد ( ما أسماه بالإنفتاح الاقتصادي) في مبادرته وشراكة المؤسسات العسكرية التي راهن عليهما حمدوك. جوهر أطروحة حمدوك هي الإنفتاح ( أم فككو) نحو العالم اقتصاديا ونخضع لشروط العولمة وننسي شعار سلام إجتماعي وعدالة اجتماعية ، وهو ذات مشروع الدولة العميقة الذي كاد حمدوك أن يقع فريسه في شراكه قبل هنيهة من الثورة. ذكرت رويترز (17 سبتمبر 2018) أن عبد الله حمدوك ، الذي عين في البداية وزيرا للمالية ، رفض التعيين؛ وكاد أن يلتحق بالنظام المدحور لولا عناية أصدقائه الذين نصحوه أن ينأي عن ذلك كما ذكر هو نفسه. أعتقد أن د. حمدوك تسووي ورجل توازن ، رؤيوياً ووظيفياً ومهنياً وأخلاقياً وبراغماتياً ، لذلك أعلن علي رؤوس الأشهاد وبصوت مسموع وموثّق أن يكون رئيس وزراء للجميع (للثوار والقوي المعارضة للثوار) لذلك اجتمع مع الجميع وأعلن تنفيذ برامج الجميع ضد الجميع وعيّن الكيزان لوظائف قيادية في ذات اللحظة وفي الآن وهنا: دعم الثائر من جهة ، والتعيس وخايب الرجا من جهة أخرى. لقد يممت ثورة ديسمبر وجهها شطر تغيير وتثوير موازين القوي ومعادلة الهيمنة ، لكن مكمن الخسران المبين أن د. حمدوك إختار الوسط ، ولذلك فارق منهجياً ومنطقياً وبنوياً خط الثورة ، وكما قال الشاعر حمّيد عليه الرحمة:
جرح الوطن خطالنا خط
خطالنا قول ما منو نط
الليلة يا موت يا حياة
خاتي البيختار الوسط

منهج الظل:
أقصد بمنهج الظل الذي تحكى عنه الحكمة الشعبية في محكية (دخل القش وما قال كَشْ) ، بمعني أنه يود أن يمر علي الفترة الإنتقالية دون أن يحرك ساكناً في أمهات أمور التغيير الثوري بشرعيته. وحين يطرح مبادرة ما يتحاشي أن تضر الآخر الذي جاءت الثورة لنفيه ، لذلك تحاشي الشفافية التي ربما تحدث جلبةً وضجيجاً وعمل بصمت مع مستشاريه بعيداً عن قوي الثورة. طالمل ينتقي د. حمدوك عباراته بحذر حتي لا يمس أصل الداء الذي يتمثل في حقيقة قالها مرة ثم لم يوليها بالعلاج الكاوي وهي أن 82٪ من موارد الدولة خارج وزارة المالية والنظام المصرفي ، وهي وصفة للدولة الفاشلة التي يجلس عليها. اذا كان هذا مكمن الداء فعلي الطبيب أن يضع مبضعه فيه قبل أن يطرح "الانفتاح الاقتصادي" الذي أكّد بأنه ناجح ، رغم أنه يعلم أنه عمّق ازمة الدولة الفاشلة.
منهج الظل الحذر تمخض فولد عبارات مثل القوات النظامية (وهي ليست بقوات مهنياً وبنوياً). وصف الداء هو أول العلاج من كي واستئصال. اسمها الصحيح هو القوات والجيوش والمليشيات التي لاتحصيها اصابع اليدين. هذه الجيوش هي التي تمتلك 82٪ من موارد الناس وأرزاقهم من سلع استراتيجية وتضارب فيها. يشتمل منهج الظل أيضاً علي حكمة معروفة تقول كيف يستقيم ظل العود الأعوج وحمدوك يتلهّي بشراكة نموذجية مع بنية جيش مشوّه وانفتاح إقتصادي علي سعير العولمة عبر دولة فاشلة تم نهب مواردها وما انفك االنهب من الميزانية العامة ومن ذات المؤسسة الخربة.
سنفكك هذا الخطاب كنموذج لمنهج الظل الذي انتجه هذا العود الأعوج من دولة فاشلةٍ ناهبةٍ كاذبةٍ خاطئة ومكتوب عليها منطقياً وبنيوياً وحتمياً أن تكون كليبتوقراطية عنيفة وبوليسية تحرس آلات نهبها قوات عسكرية من جنرالات رجال أعمال ساسة ومليشيات وليست قوات نظامية. وسيكون انفتاحها الإقتصادي الإقليمي والدولي آلية ومطية لتثبيت أركان ذلك البؤس الإقتصادي السياسي الإجتماعي الواقعي القياموي. ليت تكنوقراط صندوق النقد يشترطون اولا وضع يد الدولة علي تلك الموارد الانتاجية قبل الحديث عن اسعار العملة وجانب الطلب وحده لإيقاف ذلك الاستنزاف اليومي. نزعم هنا أن منهج الظل هذا قدم لنا بضاعة مصطلحات نموذج الشراكة والقوات النظامية الذي قوامه نسبة (82:18) والانفتاح الاقتصادي. وهو ذات الداء الذي ظلت لجنته الأمنية قبل الثورة (وهي داخل المجلس السيادي) وحدها لا شريك لها تصدر القوانين لتثبيت أركان النهب القديم وتقوّض شعار حرية (عبر قوانين خنق الحريات في الشارع وتأتي بقانون نقابات 2010) ، سلام (سلام غير شامل ومنقوص ، كسلام ضد الحرب والموت المستمر أو سلام اجتماعي) وعدالة (اجتماعية وانتقالية معاً).
ومن عوج عود المنهج أن رئيس وزراء الجميع لم يستثنِ أحدا وفتح بابا كبيرا للريح بكسر شوكة ثورة ديسمبر التي جاءت به ليس رئيسا منتخباً وانما لتنفيذ شرعية ثورية ليست للجميع وانما بمشيئة الثوار التي تستهدف تصفية وتفكيك الدولة العميقة التي تسببت في الأزمة. هنا تكمن مسؤولية حمدوك ودوره في عدم تأثير مرور الظل علي عويش الواقع السوداني حتي لا يحدث صوتاً.
من نعيم الخطاب الي جحيم سلطة الخطاب (ملحوظة في تغيّر موقف د. حمدوك الفكري بين الأمس واليوم):
لا شك أن الإنسان تتبدل مواقفه الفكرية والعملية حسب الظروف والشروط الإجتماعية ، لكن مع ثبات وبقاء الرؤية والمواقف المبدئية والأخلاقية. في هذه الفقرة أرصد مواقف د. حمدوك الفكرية كتنفيذي وأكاديمي تكنوقراط في فضاء المنظمات الأفريقية التابعة للشمال الكوني ، وأترك تقييم الخلاصات لفطنة القارئ. الشاهد أن د. حمدوك قدّم استقالته من الأمم المتحدة متوجها نحو القطاع الخاص في 30 اكتوبر 2018 ، ولكن سبق عليه الكتاب السياسي الغميس بغيلانه الطبقية العنيفة فأصبح بنعمته ونِغمته رئيساً لمجلس وزراء الثورة. لقد إنطوت أطروحة حمدوك الفكرية قبل إستوزاره علي استنارة معقولة لدي المؤسسات التنموية المعاصرة في الشمال الكوني قوامها الإعتماد الرئيس علي الذات والموارد المحلية ووالموازنة بين القطاعين العام والخاص وليس الإنفتاح العائر الذي يطرحه الآن كرئيس وزراء ثوار ديسمبر الذين ينتمون بجدارة الي من هم تحت خط الفقر ومن ذوي الدخول المحدودة، ثورة أتت بعد خصخصة ونهب شبه مطلقيْن لمؤسسات القطاع العام حسب روشتة الصندوق. ودوننا عدة أمثلة من خطابه الإستناري السابق:
المثال الأول: هو أن وجهة عبد الله حمدوك الفكرية في 14 يوليو 2015 كانت دعوته الي قطيعة من/عن الماضي التنموي العالمي تتمثّل في البعد عن الدعم التنموي "المساعدة الإنمائية الرسمية" عبر المساعدات والعون الأجنبي ، وأكّد علي ضرورة تعبئة الموارد المحلية. ذكر ذلك بالحرف في محاضرة بعنوان زيادة الحيّز (الفضاء) المالي فى أفريقيا ، في المؤتمر الثالث حول التمويل التنموي في افريقيا (راجع اليوتيوب المرفق حول زيادة الحيّز المالي).
المثال الثاني: هو موقف د. عبد الله حمدوك الفكري في يناير 2017 كسكرتير تنفيذي مناوب للجنة الاقتصاديَّة للأمم المتحدة بأفريقيا والتي ألقاها أمام المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي في قمة الاتحاد الأفريقي ، وكانت وجهته الفكرية الآيديولوجية حينها ، نعم الآيديولوجية، وهو يتناول آليات ومتطلبات العائد الديموقراطي في أفريقيا هو أن زيادة إدخارات الدول الأفريقية عبر معدّل إعتماد ضعيف علي الخارج هي أحد تلك الآليات وليس الإنفتاح الإقتصادي الذي يصر عليه الآن كرئيس مجلس وزراء ثورة !! ، وذكر حينئذٍ ضرورة زيادة الطلب المحلي التي تتطلّب استثمار في الزراعة والتعليم والصحة ، ولكنه الآن يشرف علي ميزانية 2020 التي تتغلب عليها حصة المؤسسات العسكرية والأمنية أضعاف التعليم والصحة (راجع الكلمة التي ألقاها أمام المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي في قمة الاتحاد الأفريقي فيديو اليوتيوب المرفق، الدقائق 8-9).
المثال الثالث (حزمة من الإقتباسات):
أدناه مقتطفات من أفكار د. حمدوك النيّرة المستنيرة التي لاعلاقة لا بشروط صندوق النقد الدولي والإنفتاح الإقتصادي العائر (راجع كتاب الدولة التنموية الديموقراطية ، المؤلف د. صلاح عوض عمر، 2016):
* "الدولة التنمويَّة الديموقراطية، يجب أن تتمتّع بأهداف اقتصاديَّة واجتماعيَّة يتم تحديدها جيداً، التي تحتاج إلى التدخل المباشر من الدولة لتحقيقها، وبذلك تكتسب القدرة على تحقيق واستدامة التنمية".(ص 13).
* وفي موضع آخر يؤكّد أن "التحول الاقتصادي الناجح، يتم بفعل التدخل الحاسم للدولة، الذي يعتمد على عملية تخطيط منظمة ومبرمجة، وقد تم تنفيذها بفعالية وجدارة" ( ص 17).
* يذكر حمدوك سمات الدولة التنمويَّة الديموقراطية ومنها أنها يجب أن تمتلك "القدرة على السيطرة على الغالبية العظمى من أراضيها، ولها من القدرات الأساسيَّة ما يمكِّنها من وضع السياسات وتنفيذها". وفي البال أن حمدوك ليس من أولوياته الآن مراجعة عقودات إستلاب الأرض في السودان.
* ثم يؤكّد أنه "يجب أن تتمتع الدولة التنمويَّة الديموقراطية بخاصيَّة "الاستقلال المندمج" وهي الخاصية التي تجعل موظفي الخدمة المدنيَّة أكثر مهنيَّة وغير مرتبطين بالمجموعات التي تسعى إلى تحقيق الربح المادي" (ص 14). أولي مفارقة حمدوك أنه زهد من هذه القناعة المستنيرة كونه أصبح يعيّن أخوان مسلمين في أعلي قمم الخدمة المدنية ، كما يقود اتفاقية جوبا ومجلس شركاء الدم ولُحمة وسدي كلاهما المحاصصة واللا مهنية.
* وعلي ذكر تجربة كوريا ذكر أهمية " التزام مثالي بدعم النمو المصحوب بالإنصاف" ( ص 17). أما الآن فان برنامج ووصفة صندوق النقد لاعلاقة لها بالإنصاف وانما تقطيع مفاصل القطاع العام والتقشف فى قطاعي التعليم والصحة إحدي بؤر الإنصاف.
* ويستمر العطاء الاستناري القديم فى قوله "تبيّن الأدلة التاريخية، في الواقع، أن جميع البلدان التي حققت التحول الناجح من اقتصاد فلاحي إلى اقتصاد عصري حديث، كانت لديها حكومات اضطلعت بدور رائد في وضع السياسات الملائمة. ومن ثم، فإن الدور المركزي للدولة، لا يعتمد على مقدار مشاركتها في عملية التحول الاقتصادي، ولكن الأهم من ذلك، مدى قدرتها على إدارة التنمية من خلال توجه أيديولوجي حاسم، ومؤسسات فعالة، وسياسات يدعمها جهاز بيروقراطي وتنظيمي ملائم، ومصحوبة بإرادة سياسيَّة قوية وحاسمة." ( ص 19-20) .
لم د. حمدوك حينئذٍ هيّاباً ولا وجلاً من عبارة الأيديولوجيا كما يردد بعض مثقفينا ونخبنا الذين يعيروننا بأننا آيديولوجيين ، وكأنهم في برجٍ مكين من مغبّتها المتوهمة.
[email protected]
نواصل
مراجع:
1. احمد ابراهيم أبو شوك ، المثقف والسلطة وإشكالية المواقف الأخلاقية في السودان ، مجلة إضافة، العدد الاول اغسطس 2021.
2. د. عباس عبد الكريم ، مقدمة فى الاقتصاد السياسى للثورة والثورة المضادة في السودان ، 2019-2021.
https://sudanile.com/archives/142731
1. د. عباس عبد الكريم، في الاقتصاد السياسى للثورة(2): الاختطاف الاقتصادى والتفوق على متطلبات صندوق النقد الدولى فى رفع الدعم السلع
https://sudanile.com/archives/143008
1. جانب من "محاضرة بعنوان "زيادة الحيّز المالي الأفريقي" ، المؤتمر الثالث حول التمويل التنموي في افريقيا 14 يوليو 2015:
1. الكلمة التي ألقاها حمدوك أمام المجلس التنفيذي للاتحاد الأفريقي في قمة الاتحاد الأفريقي:
Address by Dr. Abdalla Hamdok Executive Secretary (acting) , United Nations Economic Commission for Africa (UNECA) to the AU African Union Executive Council African Union Summit, January 26, 2017
1. عبد الله حمدوك ، نائب الأمين التنفيذي – اللجنة الاقتصاديَّة للأمم المتحدة بأفريقيا أديس أبابا – يناير 2016 ، في كتاب الدولة التنموية الديموقراطية ، المؤلف د. صلاح عوض عمر، الناشر: مشروع الفكر الديمقراطي ، ابريل 2016. تقديم حمدوك ص (13-22).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.