المدينة الإسمنتية زحفت إلى جواره، طوقته، كلما أرادوا أن يمهدوا عليه شارعاً عجزوا، وهكذا دارت الأيام. يحاصرونه فيقاومهم، ريح الشتاء تهب باردة، والمسؤولون يلهثون، يمسحون أحذيتهم اللامعة، يهمسون لبعضهم وتتحرك الجرارات بأزيزها كالمطارق. تنتصب الذكريات المرة، تتهادى الرغبة في التحطيم، ولكن يخمد كل شيء. عبدالباسط هناك كأن سكاكين تنغرز في صدره، وجوههم العريضة كنبات العشر، رئيس البلدية برأسه الضخم وكتفيه العريضين يصدر أوامر ه بدك الضريح. الشرطة مدججة بالسلاح تتحفز، سائقو اللودرات تخشبت أياديهم، نظرة رئيس البلدية المشجعة تحثهم، تنكسر أسنة الجرارات وتقف ساكنة، الحزن في الحدقات، انكفأت الفرحة المكتومة، تحولت إلى يأس وخوار عزيمة. رابح يدون المشهد وروحه تشتعل، أحدهم يشعل سيجارة ويأتي بجرارات جديدة وتبدأ المحاولة. رئيس البلدية أضحى وجهه كقرص الشمس مفجوعاً، (يزعق) فيهم أن يستمروا. رابح يدون يعجزون عن فك سلاسل جنزيره، أحدهم يقترب منه محاولا أن يقرأ ماذا كتب، شوه لحظات استغراقه. المهندسون مطالبون بكتابة تقرير، يضحك الحاج بهستيريا وكأن ريحاً تسكنه، يوقفونه يسألونه عن سبب ضحكه الذي أغضب المهندسين ورئيس البلدية وعمال الحفر. صمته أصابهم بالرعب، لفح وجوههم ذهوله، في اليوم التالي كثر عدد الناس وجرارات صفراء تعمل على الجوار بهمة كالحريق تخشى أن ترجع خائبة كما جاءت. عبد الباسط يرى الشك في عيونهم وخيوط الغضب، كثر الهمس، ازدادت التساؤلات وطالت بقدر الهم المزروع في مساحات الحزن. غُسلت وجوههم بالوجع، يجتمع المسؤولون يقررون أن يستأنفوا غداً. على غير العادة أطلق عبدالباسط صيحة فرح معبقة بالأمل، زغردت النساء وإن كان البعض يأكلهم القلق. الحيرة وآهات جارفة للرغبة في معرفة إلى ماذا سيؤدي هذا التحدي، احتشد الناس في اليوم التالي بعدد كبير رغم تحذيرات الشرطة، (اللودرات) مرتكزة على القرب والأشجار كأنها تنشج بدمع ثخين. قال عبدالباسط إن الإنجليز قد قتلوه هنا حيث كان مناضلا جسوراً لا يشق له غبار، وقف على مبادئه ولم يتزحزح، رابح أردف قائلا إنهم أتوا به والسلاسل تكبله على يديه ورجليه. كان الناس يحبونه وكانت نظراته تثقب الأفق، أرعب جلاديه؛ لذلك قيدوه وهو المتمنطق بالإيمان. شجاعته تنبعث حرائق من عينيه، التقارير تقول إنه ضد السلطة ويؤلب عليها الرعاع وشذاذ الآفاق، وجوده أصبح خطراً عليها. الحاج أطرق هنيهة ثم قال: أدخل فيهم الخوف ولازال ، إنه ولي من أولياء الله الصالحين. أردف عبدالباسط أنه قطب من أقطب الكون، هنا أقيمت المشنقة، تم شنقه ومرت أيام كالعلقم يتحدث الناس عن الظالم والظلم ولا يفعلون شيئاً، والطغاة تاتلق عيونهم وعلى شفاههم ابتسامات الرضا. عثر عند عبدالباسط على منشورات، مثلثات ومربعات وأرقام ورموز، قبض عليه، أثقلوا يديه بالحديد، ألهبهم بنظرات حارقة، لم ينكر، ناقشوه كثيراً، عذبوه أكثر، لكنه لم يلن، كانت ثقته تزداد كل يوم، حاولوا معه بشتى السبل، وعدوه بالمال الوفير الجاه والسلطة، وأخيراً قالوا إنه قد جن وأنه خطر على الناس،لابد أن تتم معالجته، أطلق سراحه وإن ظلوا يراقبونه، البعض صار لا يقترب منه وآخرون تتسلل منهم لغة الحب، من العيون والأكف والهمسات العابرة التي تتمتم بها الشفاه، وإن كان أحباؤه يلتقونه بليلً. بعد زمن طويل جاءت (لودرات) يابانية ضخمة مسحت الفناء حول الضريح، جعلته حدائق غناء وأشجاراً وارفة الظلال، قبة ومسجد. وفي ذات يوم جاء عبدالباسط والحاج ورابح وصلوا فيه العشاء، ارتشفوا عبير نكهة المكان، وقبل شروق الشمس ذهبوا، تلاشوا كغرباء في حشد . [email protected]