جثوتُ على ركبتي ولوحُ الخشب على فخذي، جمرتان تنحدران على خدي الذي يرتجف من الغيظ، شيخي يمسحُ على رأسي مواسياً ويتمتمُ: يا بُني أكظم غيظك واعفُ عنهم، انتظر برق المكادة (1) ولا تُحدّث أحداً بما رأيت. قلت: سأقتلهم جميعاً. قال: لا تفعل، إنهم إخوتك. قلت: لا. قال: كلنا لآدم وآدم من تراب. انتظرتُ حتى تفرّق المصلون، ولكن ما جاء من الأولاد أحد. جلستُ عند مدخل حظيرة الشوك التي تحوي الأكواخ الثلاث، متكئاً على جذع شجرة اللالوب التي تُماثلني في العمر وتتطاول علي في القامة وتفوقني إذْ أثمرت من سنين ثلاث، كلابُ القرية تشيّع السكارى والصعاليك بالنُباح والصوصوة، مازلتُ أُحدّق في الفراغ، انفردتُ بهم واحداً واحداً، سليم العُرَّة، حِنْبِرّة ودْ عطامنو، عوض أبكرنك، جابر كرانج وسليمان سِلِسْ، تآمرت ألسنتهم ونحن نتفرّق من ملعب الكرة الذي يتوسّط أكواخ القرية، وقفوا متقاربين ولمّا اقتربتُ منهم، صاحوا بصوتٍ واحدٍ: ود الحبشييييييية. ثم ولّوا هاربين، حاولتُ اللحاق بهم ولكنّهم تفرّقوا بين الحواري والأزقة التي تشبه مسارات الثعابين. تفرَّق دمُ الإهانة بين الطرقات. قُبيل الفجر نعت النائحات شيخي. قضيتُ يومي انتحب وانشج، ذهبتُ عقب المغيب الى المقبرة، جلستُ عند شاهد القبر، كان رطباً رغم حرارة يونيو، بكيتُ، بكيت حتى لم يبقَ من البكاء مزيد، غشيتني سمادير وآل وأضغاث أحلام ساقتني الى المغارة التي يدخلها شيخي في أول أيام شهر رجب ويخرجُ منها يوم عيد الفطر، يصومُ ويفطر على القَرَضْ، حين هممتُ بالولوج أرعدت السماء التي كانت صافية وأبرقتْ من تلقاء مكادة، أضاء البرق ما بين المشرق والمغرب، تذكرتُ وصية شيخي ودخلت. شيخي، يتوسّط خلقاً كثيراً ينظرون إليه، يُحدِّقون في وجهه بالتبجيل، حين رآني تهلّل وجهه وأجلسني بيمينه وقال: هذا صاحبُ الزمان. حدقوا في وجهي مليا. أشار شيخي الى من يليني يميناً وقال: آصف بن برخيا والذي يليه منجليك بن بلقيس والذي يليه فرح ود تكتوك. لمحتُ في عيونهم لمعة البرق الذي برق من تلقاء مكادة فغشيني برد اليقين. قاموا، ثلاثتهم، قبَّلوا رأسي وساقوني الى مبعدة وجلسوا يقصون عليَّ حكاية أمي الحبشيَّة. قال آصف بن برخيا: كانت وصيفةً في قصر سليمان، الكلُ يطمعُ في وصالها، أوكل سليمان أمر حراستها لعفريت من الجن، افتقدها العفريت يوماً فأخطر سليمان الذي كلَّف الهدهد بالبحث عن مكانها، جاء الهدهد وهمس في أذن سليمان بكلماتٍ، فلعنها سليمان. هذا ما علمتُ. قال منجليك بن بلقيس: جاءت بلقيس من سبأ لزيارة سليمان في أورشليم، في ركابها رجال البلاط والقواد وذوو الجاه والسلطان، عملت الوصيفة في خدمة الضيوف الذين ملأوا القصر، وقعت الوصيفة في غرام حامل أختام الملكة في العلن وعشيقها ونديمها في السر، حين رحلت بلقيس، هربت الوصيفة في ركب عشيق الملكة، لحق بها جنّي لتعود الى بلاط سليمان ولكنها تمنّعت فأصابتها لعنة سليمان النبي، أصبحت تتزوّج رجلاً وتظلُّ محرومة من وصاله تسعاً وتسعين سنة قمرية، في تمام المائة تخونه مع رجلٍ غريبٍ، حين ترتوي عروقها بنشوة الوصال تحبلُ منه بولدٍ، يوم مولده يموت صاحب النُطفة حريقاً أوغريقاً، وتعود هي بكراً في العشرين ثم تُباع سبيّاً. قال فرح ود تكتوك: كله بأمر الله، أرسل مك سنار حملة تأديبية لنواحي الحبشة، غابوا شهرين وعادوا منصورين، عرضوا سبيهم وغنائمهم للبيع، حين رآها المشترون فاضت أصلابهم بغُدران الشهوة الحرَّاقة، فغالوا في ثمنها، اشتراها أبوك بحمل بعيرٍ من العاج وسعن من السمن وسر الإسم الذي دعا به يونس في بطن الحوت فأنجاه الله، عقدنا عليها لأبيك على سُنّة الله ورسوله، عاشت معه مائة عام ثم أنجبتك، في ليلة مولدك مات العرّاف الذي جاء من نواحي شنقيط يبيعُ التمائم والتعاويذ وعطر الزباد ويغشاه الكهول، يحصلون على مسحوق حَلَل التمساح، يا ولدي كله بأمرالله. طنَّت في أذنيَّ كلماتهم الحرّاقة: ود الحبشيييييية. خرجتُ بغير وداعٍ كي أنال منهم واحداً واحداً. سرتُ إعصاراً لا يلوي على شئ، حين بلغت الساحة التي نلعب فيها الكرة، وجدتهم، لم يعرفني منهم أحد، كانوا قد بلغوا سن الشيخوخة، وجوههم يكسوها الشعر الأشعث، استطال شعر الرؤوس الى منتصف ظهورهم مضفوراً. يلبسون أزياء خضراء وحمراء، ويحملون رايات بيضاء وسوداء والطبل يئنُ والغناء يتلوى. كلهم كانوا هناك ووسطهم فتاة في العشرين نهداها عاريان يضجّان بالرغبة الجائحة. حين رأوني اشتدَّ عويل الطبل وانتحبوا يبكون، قالوا جاء صاحب الزمان. أمسكوا بيدي وداروا حول الطبل الذي يدور حول الفتاة ذات العشرين حتى إذا أكملنا دورات سبع أجلسوني على كَكَرٍ من خشب الطُنْدُب وألبسوني طاقية ذاتَ قرونٍ. صليتُ بهم المغرب، قال شيخ الحيران(2): ياشيخنا الحيران المخبولين الأوغاد ما جاء منهم إلا واحد، الولد النحيل يهتز من البكاء وشعره الأشعث ينوس على طرفي رأسه، شيء ما جعلني أجلسه بقربي، واللوحُ الخشبي على فخذه، بين النحيب والنشيج تبيّنت كلماته، مسحت على رأسه مواسياً وأنا أتمتمُ: يا بني أكظم غيظك واعفُ عنهم، وانتظر برق المكادة، ولا تُحدِّث أحداً بما رأيت. قال الفتى بين الدموع الهاطلة: سأقتلهم جميعاً. قلت: لا، إنهم إخوتك. قال: لا. قلت : كلنا لآدم وآدم من تراب. (1) مكادة الحبشة (2) الحيران: الأطفال الذين يدرسون القرآن في الخلاوى عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.