بعيدا عن مناطق النزاع في دارفور، وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، صعدت إلى السطح قضية سلاح الحركات المسلحة في العاصمة السودانية الخرطوم. وتشهد دارفور قتالا بين الحكومة وحركات مسلحة منذ عام 2003. أما جنوب كردفان والنيل الأزرق فتشهدان قتالا بين القوات الحكومية والحركة الشعبية – شمال منذ عام 2011، وأدت هذه الحروب إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح ولجوء ملايين. ووصلت الحركات المسلحة إلى الخرطوم وعدد من مدن البلاد، عقب توقيع اتفاق السلام في أكتوبر الماضي في إطار بند الترتيبات الأمنية. وتقول الحكومة السودانية إن هذه القوات حددت لها معسكرات توجد فيها إلى حين الشروع في تنفيذ الاتفاق بدمج بعض أفرادها في الجيش السوداني وتسريح بعضها الآخر. ولا توجد إحصاءات رسمية أو تقديرية لعدد قوات الحركات المسلحة بالعاصمة الخرطوم، أو أي من المدن التي توجد فيها في محافظات البلاد ال18. والاثنين الماضي أكد وزير الدفاع الفريق ياسين إبراهيم استعداد الجيش السوداني للعمل مع كل الجهات ذات الاختصاص لتنفيذ بروتوكول الترتيبات الأمنية. وأشار، في ورشة نظمتها بعثة الأممالمتحدة المتكاملة "يونيتامس" بالخرطوم، إلى أن عدم توافر التمويل حال دون تنفيذ بروتوكولات الترتيبات الأمنية. لكن اندلاع مواجهات مسلحة بين القوات الحكومية وأفراد من الحركات المسلحة بالأعيرة النارية في مطلع سبتمبر الجاري، في ضاحية سوبا جنوبيالخرطوم، وهو حي سكن مكتظ بالمدنيين، أثار مخاوف على الاستقرار والأمن بالبلاد ومستقبل اتفاق السلام. وتزامنت هذه الحادثة مع إقرار الحكومة بالبطء في تنفيذ الترتيبات الأمنية لنقص التمويل، مع تأكيدها على التزامها بتنفيذ بند الترتيبات وفق الاتفاق، ما يجعل الأمور قابلة للتطور في اتجاهات قد تكون خطيرة، بحسب المتابعين. وهذه هي الحادثة الأولى لاشتباك لقوات أمنية حكومية مع الحركات المسلحة، لكنها ليست الأولى في استخدام سلاح الحركات داخل العاصمة. وفي مارس الماضي اشتبكت مجموعتان من حركة الجبهة الثورية الثالثة "تمازج" في حي بري شرق الخرطوم بالأسلحة، ما أدى إلى تدخل قوات الشرطة وإلقاء القبض على 19 فردا من الحركة شاركوا في الاشتباكات. وفي الرابع عشر من الشهر ذاته أعلنت السلطات السودانية أن حركة تحرير السودان بقيادة مناوي أخلت مقر اللجنة الأولمبية بعد صدور قرار من مجلس السيادة بترحيل هذه القوات إلى معسكر السليت، شرقي الخرطوم. وفي التاسع والعشرين من أغسطس الماضي وقعت الحكومة السودانية والجبهة الثورية (حركات مسلحة) في مسار دارفور بروتوكول الترتيبات الأمنية، وكذلك بروتوكول الترتيبات الأمنية مع الجبهة الثورية في مسار المنطقتين النيل الأزرق وجنوب كردفان. وتضمنت الترتيبات الأمنية أيضا تشكيل قوات مشتركة بين القوات الحكومية والحركات المسلحة، لحفظ الأمن وحماية المدنيين في مناطق النزاع. ويرى مراقبون أن وجود قوات الحركات المسلحة في الخرطوم من شأنه تعزيز الثقة بين الحكومة وهذه الحركات، وكذلك يؤكد على أهمية وجودها كجزء من السودان بعد إسقاط النظام السابق (نظام البشير 1989 – 2019). غير أن مراقبين آخرين يرون أن وجود هذه القوات القتالية وبأسلحتها داخل المدن يشكل تهديدا للأمن والاستقرار في الخرطوم، ويتطلب البدء الفعلي في إخراج هذه القوات إلى خارج المدن إلى حين إكمال بند الترتيبات الأمنية. ولعل ما يثير الخَوف هو الوجود العسكري لهذه الحركات بأسلحتها بين المواطنين واستخدامها حتى في حالات الشجار العادي. وتنحصر المطالب بسحب قوات هذه الحركات وجمعها في معسكرات خارج العاصمة إلى حين تنفيذ الترتيبات الأمنية، إما بدمج القوات في الجيش أو بإعادة تسريح جزء من مقاتلي الحركات. ويعتبر الخبير الاستراتيجي اللواء المتقاعد أمين مجذوب أن أحداث سوبا "هي نتاج أخطاء تراكمية في وجود القوات الموقعة على اتفاق سلام في الخرطوم، وذلك لعدم تحديد أماكن وجود هذه القوات، لفحصها وتدريبها وتنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية على الأرض". وقال مجذوب إن "الاضطرابات الأمنية في سوبا بسبب قوات الحركات المسلحة الموجودة داخل منطقة سكنية، وهي قوات متفلتة، تشير بوضوح إلى أخطاء التفاوض التي تتحملها القيادة السياسية بأنها سمحت لهذه القوات بدخول المدن". ويشير إلى أن اتفاقية الترتيبات الأمنية حددت لهذه القوات أن توجد على بعد 50 كيلومترا من المدن، في كل مناطق النزاع وليس العاصمة الخرطوم. ويرى مجذوب أنه "يجب حسم مسألة وجود قوات الحركات المسلحة في العاصمة بإخراجها من الخرطوم وبقية المدن، وإعادة تدريبها ودمجها، وفق اتفاق السلام". وفي الثلاثين من مارس الماضي أصدر مجلس الأمن والدفاع السوداني، أعلى هيئة أمنية بالبلاد ويترأسها عبدالفتاح البرهان، قرارا بإنهاء "مظاهر الوجود المسلح" في العاصمة الخرطوم والمدن الرئيسية، لمواجهة الخلل الأمني في البلاد. ويرى الكاتب والمحلل السياسي عثمان فضل الله أن الحوادث الأخيرة توضح بجلاء أن هناك خلافات بدأت تظهر داخل شركاء السلام من الحركات المسلحة. ويضيف أن "وجود هذه الحركات داخل الخرطوم والمدن بسلاحها هو أمر مقلق وقد تتكرر منها حالات الانفلات لأن هذه الحركات معرضة للانشقاق في أي وقت". ويعتبر أن التأخير في بند الترتيبات الأمنية لتحديد مناطق وجود قوات هذه الحركات وعددها يشكل خللا في تنفيذ بنود اتفاق السلام. ويعد إحلال الأمن والسلام من أبرز أولويات السلطة في السودان خلال مرحلة انتقالية بدأت في الحادي والعشرين من أغسطس 2019، تستمر 53 شهرا تنتهي بإجراء انتخابات مطلع 2024، ويتقاسم خلالها السلطة كل من الجيش وقوى مدنية وحركات مسلحة وقعت مع الخرطوم اتفاقا لإحلال السلام في الثالث من أكتوبر الماضي.