كأس العالم.. أسعار "ركن السيارات" تصدم عشاق الكرة    المشعل اربجي يتعاقد رسميا مع المدرب منتصر فرج الله    تقارير تكشف ملاحظات مثيرة لحكومة السودان حول هدنة مع الميليشيا    شاهد.. المذيعة تسابيح خاطر تعود بمقطع فيديو تعلن فيه إكتمال الصلح مع صديقها "السوري"    شاهد بالفيديو.. على طريقة "الهوبا".. لاعب سوداني بالدوري المؤهل للممتاز يسجل أغرب هدف في تاريخ كرة القدم والحكم يصدمه    شاهد بالفيديو.. البرهان يوجه رسائل نارية لحميدتي ويصفه بالخائن والمتمرد: (ذكرنا قصة الإبتدائي بتاعت برز الثعلب يوماً.. أقول له سلم نفسك ولن أقتلك وسأترك الأمر للسودانيين وما عندنا تفاوض وسنقاتل 100 سنة)    رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية يهاجم تسابيح خاطر: (صورة عبثية لفتاة مترفة ترقص في مسرح الدم بالفاشر والغموض الحقيقي ليس في المذيعة البلهاء!!)    انتو ما بتعرفوا لتسابيح مبارك    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شاهد الفيديو الذي هز مواقع التواصل السودانية.. معلم بولاية الجزيرة يتحرش بتلميذة عمرها 13 عام وأسرة الطالبة تضبط الواقعة بنصب كمين له بوضع كاميرا تراقب ما يحدث    شاهد بالصورة والفيديو.. القائد الميداني بالدعم السريع "يأجوج ومأجوج" يسخر من زميله بالمليشيا ويتهمه بحمل "القمل" على رأسه (انت جاموس قمل ياخ)    شرطة ولاية الخرطوم : الشرطة ستضرب أوكار الجريمة بيد من حديد    البرهان يؤكد حرص السودان على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع برنامج الغذاء العالمي    عطل في الخط الناقل مروي عطبرة تسبب بانقطاع التيار الكهربائي بولايتين    رئيس مجلس السيادة يؤكد عمق العلاقات السودانية المصرية    رونالدو: أنا سعودي وأحب وجودي هنا    مسؤول مصري يحط رحاله في بورتسودان    "فينيسيوس جونيور خط أحمر".. ريال مدريد يُحذر تشابي ألونسو    كُتّاب في "الشارقة للكتاب": الطيب صالح يحتاج إلى قراءة جديدة    مستشار رئيس الوزراء السوداني يفجّر المفاجأة الكبرى    مان سيتي يجتاز ليفربول    دار العوضة والكفاح يتعادلان سلبيا في دوري الاولي بارقو    لقاء بين البرهان والمراجع العام والكشف عن مراجعة 18 بنكا    السودان الافتراضي ... كلنا بيادق .. وعبد الوهاب وردي    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استعصاء التفكير العسكري الثنائي
نشر في الراكوبة يوم 01 - 10 - 2021

يمكن اعتبار المحاولة الانقلابية الأخيرة وما تلاها من تصريحات دعاية مجانية للجانب المدني في النظام الانتقالي ، فبلادة قادة اللجنة الأمنية لا تداويها دروس الواقع ولا الاختلاط والممارسة السياسية. لقد عملت التصريحات العسكرية كعامل وحدة ثورية على طول خط الثورة والانتقال ، ابتداء من تصريحات حميدتي الرمضانية عام 2019، إلى بيان الانقلاب بُعيد عار القيادة العامة، إلى ردود الفعل غير المدروسة على كل مطالبة مدنية للجانب العسكري بإنجاز ما يليه. متى سيفهم القادة العسكريون أن نقدهم للمدنيين هو "مذمة من ناقص" وتعني كمال المدنيين عند الشعب السوداني؟ المرجح أن كلمة الشعب لا تعني شيئًا لهؤلاء القادة وأن كل هدفهم هو صناعة رأي عام عسكري . أظهرت التصريحات العسكرية مجدداً أن الجانب المدني ليس مجرد واجهة للإدارة العسكرية ، أو مستلم أو متآمر لصالح إلتفاف اللجنة الأمنية على الثورة. مرّة أخرى ظهر جلياً أن الجانب المدني مثابر من أجل الإنجاز الكامل للإصلاحات الأمنية والعسكرية ، ولكن بطريقته. وهنا يجب على أبواق التخوين ودعاية "شراكة الدم" أن ينتبهوا إلى الطعنات التي يسددونها إلى ظهر الجانب المدني إن كانوا وطنيين حقيقيين . فعلى عكس القادة العسكريين الممسكين ب"بلوفة" كل شئ من أمن الفلول إلى سوق الفلول إلى إعلام الفلول ونظارهم القبليين ، لا يحتكم الجانب المدني إلا على السند الشعبي والدعم الغربي الفاتر . لذلك فإن طعنات التخوين هي طعنات للعملية الانتقالية برمتها.
رغم عدم اخفاء القادة العسكريين لنواياهم الغادرة ، ورغم أن الذاكرة الحية تضج بافتقارهم لأي سقف أخلاقي أدنى ، لا نستطيع إعفاء أنفسنا من بذل الحرص الواجب والعناية المستحقة لحلحلة مشاكل الانتقال بغير انفعال يمسح كل ما على الطاولة. أحاول هنا النظر إلى المشكلة ابتداء بالتكهن بخصائص المجتمع العسكري في ظرفنا السوداني الراهن عل هذه النظرة تسهم في فهم الخصائص الثقافية للمجتمع المهني العسكري بما يوفر للعسكريين قدرة أكبر على تنقية الشوائب الضارة في هذه الثقافة، ويوفر للمدنيين تفهماً أكبر للمخاوف والدوافع العسكرية. هذا الجهد يتصدر للمشكلة من باب إعادة الانتباه إلى فجوة في تناول الشأن العام أملاً في جذب المزيد من الاهتمام الأكثر تخصصاً.
تحدث عالم السياسة الأمريكي رونالد إنقلهارت عن أن حركة المجتمعات تتجه من قيم "البقاء" إلى قيم "التعبير عن الذات"، حيث أن المجتمعات التي ما زالت قريبة من مهددات البقاء تكون أكثر ميلاً نحو القيم المادية التي تهدف إلى الحفاظ على الأسباب المادية لبقاء المجتمع وتنحو للانتماء للجماعة والفخر بها والدفاع عنها، في حين أن تلاشي مخاطر البقاء أو قلة حدتها يفتح المجال لقيم توسِّع دوائر الانتماء وتخلق المزيد من الثقة بين مكونات المجتمع. سودانياً، تحدث النور حمد عن أفكار مشابهة ولكن أرى أنه قام بجمع قيم البقاء المتطرفة تحت مسمى "العقل الرعوي" وأرجع إليه ما يعتري واقعنا السياسي من تشوهات.
إذا حاولنا تطبيق نظرة إنقلهارت على مجتمع رعوي ، نجد أنها تنجح في تفسير الكثير ، حيث أن منظومة القيم السائدة فيه يمكن ربطها بمتطلبات بقائه في سياقه التاريخي الخالي من السلطة المركزية والعقد الاجتماعي الممتد جغرافياً وإثنياً . حاجة القبيلة للحفاظ على بقائها تحتم عليها أن ترتب نفسها في شكل شبه عسكري، وأن تحسم موضوع القيادة فيها ولا تجعله عرضة للخلافات ، وأن تضمن الطاعة العمياء من أبنائها ، وأن تحافظ على نموها السكاني كعامل قوة عسكرية ، إلى آخره . تتجلى هذه الضرورات في صورة قيم مجتمعية تعلى من الطاعة وحماية القبيلة والفتك بالأعداء في سبيلها وتستهجن التفكير النقدي والاستقلالية الفردية ، هذه القيم تآخي بين أبناء القبيلة ولكنها تسلب الغرباء إنسانيتهم، تُربّي القبيلة النظرة الثناية للعالم: نحن وهم، نحن لدينا كل الحق وهم الأعداء المستحقون للصلب والتمثيل . تؤثر هذه القيم كذلك في صورة القائد المثالي ليصبح هو جاز الرؤوس الحازم الباطش وليس الحكيم الإنساني المشاور. بالتأكيد هذا مثال متطرف لمجتمع رعوي بدائي الغرض منه تقديم صورة واضحة لارتباط القيم بضرورات البقاء.
بالإضافة إلى أن المجتمع هو رافد المؤسسة العسكرية بموضعه هنا أو هناك على الطريق المتجه من قيم البقاء إلى قيم التعبير عن الذات، فإن الدور الوظيفي الفريد للمؤسسات العسكرية يجعلها في حاجة إلى منظومة قيم شبيهة بما لدى المجتمع القبلي المهدد، لأن الفعالية في تأدية هذا الدور تعتمد على الانصياع الأعمى ، وتنفيذ الأوامر بدون التساؤل عن أخلاقيتها. أو أن تحمل المسؤولية الأخلاقية للأوامر يتم حصره في القيادة ويربى الممسكون بالزناد على حجب التفكير النقدي الأخلاقي . ولكن هذا الحجب التربوي لا بد أن ينهار عند اقتراف فظائع كبرى ، أو عند وجود تحفيز تضامني مع الضحية ، لذلك تلجأ الأنظمة الباطشة إلى استدعاء التعبئة الثنائية مرّة أخرى لتدعيم حائط الحجب ، ثنائية تحاول إقناع العسكري نفسه بأنه ضحية محتملة في حال تردده في البطش ، أو أن الضحية سوف تكون هي القيم السامية للمجتمع. وليكون حائط الحجب مستقراً فلا بد أيضاً من تهوين المآسي الإنسانية ، لأن الحرب هي المأساة الإنسانية الكبرى ولكنها في نفس الوقت هي محور الحياة المهنية العسكرية، لتصبح المآسي عبارة عن "خسائر" لا بد منها من أجل قضية الوطن السامية ، وهذا المفهوم العسكري ضرورة وطنية يمكن توظيفها لأغراض استبدادية ، تماماً مثل العتاد العسكري.
وكما تتعامل الجماعة العسكرية مع العنف الجماعي مثلها مثل القبيلة المهددة ، تنشأ قيم التضامن والثقة بين أفرادها وتتحول العلاقة المهنية إلى ما يشبه القسم الجماعي بالحماية المتبادلة والفداء ، يتم استغلال هذا الجو لتدعيم قيمة الطاعة مرّة أخرى عن طريق الخوف من العار وسط الأقران القبيلة. تغلي كل هذه العوامل على مرجل الزمن ليتحول الانتماء المهني إلى عاطفة وإيمان ينتهي لأن تتحول المؤسسة العسكرية طرفاً مستقلاً في المعادلة الثنائية، لتصبح هي مقابل كل ما سواها. نرى أعراض هذا الداء عند كل منعطف ، مثل انتفاضة حامية للجيش لمجرد جلد الأمن لأحد ضباطها في زيه المدني ، وذلك بالرغم من السكوت على سيل الدماء البريئة ، وفي استهجان القادة العسكريين لسلطة المدنيين وعدم السماح باستعادة الوضع الطبيعي بالسيطرة على الأجهزة العسكرية ، وفي البرود الظاهر حتى من أجهزة كنا نحسبها مدنية مثل الشرطة تجاه عملية الانتقال. لا أحاول نفي الدور السياسي للنظام البائد في تشويه الثقافة الأمنية والعسكرية عن طريق التغطية عليه بالعوامل الثقافية ، ولكن الرؤية المتفحصة تقتضي التقصي عن البنى الاجتماعية المساعدة فيما وراء السياسة.
تأثير النظام السابق على الثقافة العسكرية لا يحتاج إلى تفصيل ، فسياسة التمكين التي انتهجها معروفة ، وتركيزه على المؤسسات المؤمنة لحكمه والتي توفر له القدرة على البطش والقمع بديهي ، وربطه المؤسسات العسكرية بشبكة الولاء الكليبتوقراطي ظاهر. كذلك فقد عمل النظام السابق على تضخيم قيم الفخر والتحيز المهني بين منسوبي الأجهزة الأمنية والعسكرية كخط دفاع جديد في مواجهة النضال في سبيل الديموقراطية. يمكن القول بأن النظام البائد قد حاول صياغة معادلة لبقائه: الرعاية والتنزيه والتفوق – تغذية الأنا العسكرية ، مقابل احتقارها للمجتمع المدني ووقوفها في وجه أي تطور سياسي.
القوّة أيضاً عامل لا يجب إهماله عند البحث في منظومة القيم العسكرية. ففي غابة البقاء يكون الحق هو القوة والقوة هي الحقيقة الوحيدة. وبغض النظر عن كون العسكريين جزء من غمار الشعب أتوا منه ويمكن تسريحهم ليعودوا إليه في أية لحظة تستحث قيمة احترام القوة الشعور بأن المؤسسة العسكرية يجب أن يكون لها احترام خاص فوق الجميع ، ليس الاحترام الحميد النابع من الدور الوطني فقط ، بل هو احترام يتضخم إلى شعور التفوق المطلق ، فيجعلها دائرة شرف مغلقة لا ينبغي للرعاع خارجها التنظير في شؤونها ، ولا ينبغي منازعتها عروة قميص الوصاية على الشعب.
ليس من الجيد إقحام التنظير النفسي في المسائل السياسية لأن في ذلك شخصنة للأمور ، ولكن الموضوع الحرج يحتم ذلك ، وما دام الحديث عن القيم التي تنبتها القوة العسكرية الكاسحة في المكونات المجتمعية وفي النفوس ، يجب الانتباه إلى شر القوة الجاهلة غير المراقبة. ليس من الصدفة أن نسمع قصصاً مقززة عن من يقول "الله فوق وفلان تحت" أو عن من يلقب ب "رب الفور". لقد عبثت البشاعات التي مارسها النظام البائد ببعض شخصيات القيادات العسكرية بتضخيم الأنا وسمحت لهم بالتحكم في أرواح الآلاف بدون رقابة أو مساءلة. واليوم، أصبح من المتوقع أن يعتقد بعضهم بالحق في السلطة ولا يتورع عن أخذ أكثر الوسائل وضاعة إليها. لذلك فإن تكرار الغبائن لم يدع لنا فرصة في إحسان الظن بالقيادة العسكرية الحالية ، التي لم تعد مجرد قوة معاكسة تبطئ من التقدم، بل أصبح إصرارها على الانقلاب على التحول المهدد الأكبر للبلاد.
توازن القوى الداخلي
التحليل الاجتماعي السابق ينتج ثلاثة تيارات عريضة من منتسبي الجيش: تيار وطني واع ، تيار الحَمِيّة العسكرية ، وتيار التمكين الأيدولوجي .
التيار الوطني الواعي: هم الذين يقفون في صف الانتقال وهم مدركون للتحديات التي صنعها النظام السابق داخل القوات العسكرية وضرورة التعامل مهعا بتوافق مع القيادة المدنية ، وهم كذلك مدركون لأهمية الحفاظ على الانضباط العسكري والالتزام بسلسلة القيادة. إنهم يعرفون أن القيمة الحقيقية للمؤسسة العسكرية تكمن في تعبيرها عن شعبها ورضوخها لسلطته وعدم كونها حجر عثرة في طريق تطلعاته ، وهم يملكون من الوعي ما يحصنهم من الاستجابة لضغوط البيئة المهنية أو التشكل على هوى الأنظمة الاستبدادية. هذا التيار هو ما يعول عليه لإنجاز الإصلاحات المرجوة ، ونأمل أنه يمثل أغلبية منتسبي المؤسسة العسكرية.
تيار الحميّة العسكرية: هو تيار وطني أيضاً ولكن لم يسعفه وعيه الاجتماعي والسياسي لإدراك المشكلة العسكرية وأسباب الهياكل المؤسسية لأنظمة الحكم الحديثة التي تجعل الأجهزة العسكرية خاضعة تماماً للقيادة المدنية ، فهو خاضع بشكل أو بآخر للقيم العسكرية المتطرفة التي ناقشناها، وهو يستجيب للشحن العاطفي ويرى في تدخل المدنيين في الشأن العسكري عاراً على المؤسسة دونه خرط القتاد. يتم استغلال هذا التيار بواسطة تيار التمكين الأيديولوجي.
أما تيار التمكين الأيدولوجي- الكليبتوقراطي فهو معروف ، ويقوم بزيادة حصته من خلال التلاعب بالرأي داخل المؤسسة العسكرية باستخدام مشاعر الغيرة والنظرة الثنائية التي ناقشناها سابقاً. يسعى هذا التيار للحفاظ على الوضع الحالي دون إصلاحات، ويقوم بتجييش المشاعر العسكرية بابتزاز غيرة الزملاء على المؤسسة وبكافة الأساليب المتاحة من تخوين للمدنيين واتهامهم بالعمالة وتحقير السياسيين بمسميات مثل "ناشطين" وذلك في استدعاء لمركب التفوق العسكري الناتج من البيئة المهنية والسياسية ، والذي يحاول بمكر تسييل سمو وتفرد الدور العسكري الوطني في بنك السياسة. هذا التيار لا تهمه المؤسسة البتة ويمكن أن يبيعها في أقرب مفترق طرق من أجل المصلحة الأيديولوجية كما فعل سابقاً بالتلاعب بمهنيتها وتعلية الميليشات عليها، ولكنه الآن يتمسك بوضعها القائم ويزايد على الولاء لها للحفاظ على ملاذه الآمن الأخير.
إذن فالواضح أن تيار الحمية العسكرية هو من نحتاج إلى مخاطبته لأن موقفه سيزيد من ترجيح كفة الإصلاحات ، وبالطبع فإننا لا نقصد أن هذه تيارات منظمة أو أن هناك حدود واضحة بينها ولكنها محاولة لتصنيف عريض لأنماط التفكير الموجودة داخل المؤسسة العسكرية ونظرتها إلى موقعها من الدولة والمجتمع والواقع السياسي. الواضح أنه ما من سبيل لمخاطبة هذا التيار سوى ضبط الخطاب الثوري واحترام المؤسسة العسكرية وشحذ خطاب الإصلاح بما يستصحب المصالح والتخوفات المشروعة للعسكريين. وهنا لا بد أن نشيد بخطاب رئيس الوزراء الذي وضع التعريف الأدق للمشكلة بين المؤيدين للتحول الديموقراطي والمتآمرين عليه ، في نفي للثنائية العسكرية- المدنية المقيتة، التي وللأسف- أصابت الكثير من المدنيين أيضاً.
بناء على ما سبق ، أحاول استنباط منهج عملي للتعامل مع الإشكال العسكري القائم، هذا المنهج يهدف إلى الوصول إلى نقطة البداية وهي القبول بالمبدأ والشروع في التنفيذ من دون التعرض إلى ما بعد هذه المرحلة. خطة الإصلاح ومنهجه شأن آخر.
احترام المؤسسة قيمة أساسية يجب أن لا يتم انتهاكها .
يجب على الجميع التحلي بالحذر والحساسية اللازمين لإدارة هذه العلاقة الحرجة ، فالمدنيون مطالبون بفهم الميزات الاجتماعية المرتبطة بطبيعة المهمة الفدائية السامية للمؤسسات العسكرية والفصل ما بين القيادات العسكرية التي تحاول لعب دور سياسي وما بين المؤسسة العسكرية موضع الغيرة الشديدة لمنسوبيها ولكل الوطنيين . وبالرغم من أن هذا مما يفهم بالضرورة ، إلا أن الدقة في توجيه النقد هي الوسيلة الوحيدة لمنع استغلال خطاب الإصلاح في زيادة الاستقطاب العسكري- المدني .
المجهود الشعبي ضروري للتعامل مع الممانعة العسكرية الداخلية .
أسلفنا أن الثقافة العسكرية السائدة تتيح إمكانية الاستغلال السياسي لها من قبل القادة العسكريين لتعظيم الممانعة الداخلية للإصلاحات العسكرية بقيادة مدنية. تتعدد الخطابات المواربة بدءاً من الاستعطاف بالكبرياء العسكري إلى توجيه أصابع الاتهام إلى السياسيين المدنيين والتشكيك في نواياهم تجاه المؤسسة العسكرية. يحتم هذا الوضع استدعاء مجهود شعبي وطني ملهم يقوم بمعادلة كفة الكبرياء المهني المصطنع بالمشاعر الوطنية ، ويسند ظهر الوطنيين داخل المؤسسة العسكرية ويفتح لهم المجال لقيادة رأي عام عسكري مساند للإصلاحات.
الأجهزة الشرطية والأمنية تمثل نسخة مخففة من الأجهزة العسكرية .
الشرطة جهاز مدني يختلف جوهرياً عن الجيش في غرضه الأساسي حيث أنه جزء من المجتمع المدني تتوارى فيه قيم الفداء تحت البيروقراطية اليومية. لذلك فمن الواضح أن القيم العسكرية فيه تكون أقل حدة بكثير مما هي عليه في الأجهزة العسكرية مما يجعل مقاومة الإصلاحات في حدودها الدنيا. ومع الأخذ في الاعتبار وجه الشبه مع الجو المهني العسكري من حيث الهياكل والطاعة والحاجة إلى استخدام القوة والعنف ولو على نطاق أضيق ، نجد أن جهاز الشرطة يمثل حالة "عسكرية" أقل استعصاءا بكثير من الجيش، لذلك فهي تصلح كمشروع رائد في برنامج الإصلاح الأمني- العسكري ، يتم من خلاله بناء الثقة في قيادة المدنيين وقدرتهم على تأهيل الأجهزة ذات هذا الطابع العسكري واستعادة علاقتها مع الشعب.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.