أفرز تراكم الوعي الإجتماعي والثقافي والسياسي في السودان جيلاً عنيداً من الشابات والشبان أدرك أن الإسلامويين قذفوا بالوطن إلى قاع الهاوية فإما أن يكون هناك وطن أو لا يكون، فتوحد الجيل الراكب راس واختار أن يكون هناك وطن رسموا ملامحه في إعتصام القيادة العامة في رمزية عالمية للتكافل الإجتماعي – عندك خت ، ما عندك شيل – يا أخوانا الشاي ، الشاي بي جاي – وإرتفعت الهتافات إلى عنان السماء – تسقط بس – وتبارى الرسامون والشعراء والفنانون في إلهام الشعب وقامت فصول محو الأمية والإحتواء الإجتماعي لأبطال الشوارع من الشباب واليافين فاقدي السند وقامت العيادات الميدانية والمطبخ المركزي لخدمة المعتصمين بجانب كل الفعاليات السياسية والثقافية والدينية وحلقات الذكر وإقامة القداس فعززت تلك الفعاليات روح الديمقراطية والمسؤولية والشفافية والشجاعة فبرزت أنبل القيم الإنسانية وأفرزت علاقات الأخوة الإنسانية السودانية وعززت مفاهيم التضحية والاستشهاد في سبيل الوطن ورفعت راية الشهداء على الأرض ليس من اجل حور عين – فما عند الله اعظم – لكن من أجل بناء وطن عظيم حلموا به ، وأدركت مجموعات كبيرة من السودانيين أنهم أخطأوا حينما صمتوا وجبنوا عن مواجهة الأنظمة البائدة في حربها ضد شعوب الريف وحملات التطهير العرقي والديني، وجاء موكب الميارم وقطار عطبرة وانصهرت مكونات المجتمع السوداني في حلم السودان المتنوع وأدرك الشعب السوداني المكانة العظيمة للشهداء وقام الشباب بترجمة هذا الموقف في شعار عظيم ( يا نجيب حقهم ، يا نموت زيهم). بقدرات عقلية محدودة لقوى محلية منفصلة عن أحلام الشعب السوداني وبنوايا شريرة من قوى أجنبية لا تريد بالسودان خيراً يحتمل أنها سعت لتوريط الإنقلابيين، نسف الجنجويد واللجنة الأمنية للمخلوع والإسلامويين ذلك الحلم وفضوا الإعتصام وقاموا بمحو الجداريات، فأدرك الشعب السوداني أن هدف القتلة هو محو حلم الحرية وإعادة السودان إلى قاع الهاوية مرة اخرى لذلك جاء الرد حاسماً لإنقلاب اللجنة الأمنية حتى رضخت صاغرة للإرادة الشعبية، وظلت قضية فض الإعتصام هي تيرمومتر الوطنية ومقياسها ورمزية عظيمة الدلالة في النفوس لا تقبل المساومة ولا المقايضة بخبز أو دواء، وظلت منظمة أسر الشهداء هي الدليل الذي يقود الشباب بصفة خاصة، وطالب الكثيرون بتمثيل اسر الشهداء في مجلس السيادة. نتيجة للقراءة الخاطئة ، ظن الإنقلابيون أن الأولوية لقضايا الأمن والقوت والكهرباء مقابل قضية العدالة، ونتيجة لهذا الفهم القاصر إرتكبوا خطأين جسيمين أولهما عرقلة العدالة وثانيهما تنفيذ الإنقلاب، ففي الوقت الذي عمل فيه الشق الإنقلابي في المجلس السيادي على إعاقة تكوين هياكل الأجهزة القضائية والأمنية والشرطية كان الشعب السوداني منتبهاً للتسويف والتعتيم المضروب على أعمال ومناقشات المجلس السيادي خاصة في ملف العدالة ومحاربة الفساد ، لذلك انتقد الناس صمت أعضاء مجلسي السيادة والوزراء على المكون الإنقلابي حينما بدأت حرب التصريحات وهتاف الجماهير (قحاتة باعوا الدم) هو التعبير الدال على رفض الشعب لتسويف قضية العدالة والأجهزة العدلية. اللافت للنظر هو الغباء السياسي اللا مسبوق للإنقلابيين، فقد كان أبواقهم من الإسلاميين يرددون شعار الثوار ( قحاتة باعوا الدم) نكاية بقحت لكنهم لا يشعرون أنه ترجمة لشعار ثوري يمحق الكيزان وعساكرهم وجنجويدهم (يا نجيب حقهم ، يا نموت زيهم). إنقلاب البرهان / حميدتي كان معلناً من قبل الإعتصام بحكم النهاية المتوقعة للرجلين إما في زنزانة بجوار البشير في لاهاي أو في زنزانة بجوار نافع في كوبر بحكم التراتبية العسكرية على مجازر حدثت قبل سقوط النظام، كان الإنقلاب معلناً في أحداث التاسع من رمضان ، وفي فض الإعتصام، حتى أعلنه صراحة يوم 3 يونيو، لذلك لم يختلف بيان 25 أكتوبر عن بيان 3 يونيو في المظهر ولا في الجوهر بل نجد ان كثير من الحيثيات متطابقة بين البيانين. لقد جاء الإنقلاب كخطوة بائس يائس أقضت مضاجعه هتافات الجماهير (المشنقة بس ) ، (يا مشنقة يا زنزانه) بسبب قضايا مركبة لا سبيل للفكاك منها إلا بإراقة مزيد من الدم السوداني، لهذا كانت اولى خطوات الإنقلاب هي إرجاع هيئة العمليات وكوادر الأمن الشعبي ليقوموا بترويع المواطنين واختطافهم وقتلهم ، بجانب مليشيات الدعامة وحركات المحاصصة التي تحالفت معه ومع البشير والكيزان من قبل لتقبض ثمن الدم السوداني في دارفور. جاء الإنقلاب محشوراً في خانة اليك حينما سبقته مطالب الشارع بحكومة يقودها المدنيون، وجاء معزولاً حينما تبرأت منه الأحزاب السودانية حتى الإنتهازيون من ذباب السياسيون الذين يقتاتون على جراح الشعب، بل حتى قائد الدم السريع يتوارى ولا يعلن موقفاً ، فلعله يقول لنا غداً (البرهان لعب بي سياسة) كما اعتاد. كانت الجماهير والأحزاب في الحقب الماضية تناضل سنوات طويلة وتقدم أرتال الشهداء والمعتقلين لأعوام حتى تصل إلى مرحلة التعبئة الكاملة للشعب، لكننا الآن أمام وضع مختلف فالشارع أصلاً معبأ ضد الإنقلاب من قبل ولادة الإنقلاب البائس نفسه، والمجتمع الدولي وشعوب العالم الحر تراقب وتضغط، والإنقلاب لا يجد شيئاً سوى قطع النت بينما تحاصره الجماهير وتدوعوا لمليونياتها وتترس الشوارع وتضيق عليهم الزنازين حتى يكتمل سقوطهم جميعاً ونحقق الثورة الكاملة.