(بعد دا نحن الشارع ما بتهددونا بيهو! طلعوا شارع، نحن نطلع شوارع!) على الرغم من رسوخ الحق لكل شخص أن يتمتع بحرية التعبير؛ إلا أن القانون يحظر كل فعل أو تصرف أو خطاب أو غير ذلك إذا كان من شأنه أن يشكل دعوة إلى نشر الفتنة وإثارة الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، أو يحرض على العداوة والعنف وإلحاق الضرر والأذى بأي مجموعة سكانية أو طائفة دينة، أو كيان سياسي أو غير ذلك، بقصد هضم حق هذه الجماعات في الكرامة والحرية والمساواة والعدالة والأمن والاستقرار والاعتقاد والفكر، والتعبير عن ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من أنني لست متشائما، إلا أن صوت العقل والحكمة قد انزوى أو اختفى، في غمار هذه الحالة الهستيرية الغوغائية، والفوضى الغابية، التي غبَّشت سماء الوطن، وغطت ترابه بنوع من الضبابية التي تشبه الظلام الدامس، ولم تعد هناك شخصية كاريزمية، مرجعية مرموقة، حكيمة، قادرة على تجميع الناس واستمالتهم اليها عند الخطوب والإحن، فقد (غاب أبشنب، ومرح أبضنب)، وصار كبار القوم طرفا في النزاع، وجزءا من المشكلة، والحبل ما زال مشدودا بين القوى المتصارعة على حكم السودان، وقد بدأ في الطقطقة، وربما انقطع عراه ولو بعد حين. فلم نر قائدا قط، اتخذ موقفا وسطا، فوق على مسافة واحدة من كل أطياف الشعب السوداني، كحاكم للكل. لم يشهد السودان منذ غياب رجال كالمحجوب والإمام عبد الرحمن وعلي الميرغني والزعيم الأزهري وغيرهم من جيل الحكماء، خطابا يدعو للتسامح والتصالح ونكران الذات، على غرار التسامح الذي جسده الزعيم الأفريقي القدير نيلسون مانديلا، أو العفو الكبير الشامل الذي قاده الرئيس الكيني أوهورو كينياتا في خواتيم العام المنصرم. فقد اتسم الخطاب السياسي طوال سنوات حكم الاسلامويين بالعدائية والإثارة والتعالي، والارتهان إلى الغيبات الكذوبة، وافتقر إلى كل صفة تعبر عن روح الصواب السياسي (Political Correctness)، أو الكياسة أو المداراة السياسية، إذ انخرطت قيادات الإنقاذيين ودهماؤها، وحتى الآن، في تتبع وانتقاء الألفاظ الشوارعية، واختيار العبارات السوقية في مخاطبتها لتطلعات الجماهير ومطالبهم، برغم عدالتها، وقد عمدت من خلال تلك الألفاظ والعبارات الهجينة إلى كيل الإساءة والإهانة والتحقير والشتائم إلى معارضيها، ليس داخل صالونات مغلقة على سبيل القطيعة والنميمة، وإنما علنا وصراحة، بعد أن سخرت لذلك كل قنوات وأجهزة الإعلام الرسمية للدولة، وهي وسائل قومية يتم تمويلها من عرق البسطاء والكادحين. وفي تلك المعمعة، اختفى تماما خطاب وجادلهم بالتي هي أحسن، وأعفو وأصلح، وقولوا للناس حُسنا، وفي المقابل انحنت هامة الأخلاق، ورأفة الراعي بالرعية، وارتفع سقف القسوة والجلافة، والغلظة، والتمكين واللصوصية والصعلكة، وبرزت ثقافة خطاب متعجرف مستبد من شاكلة (صرفت ليه بركاوي، وأردمو، والحس كوعك، وشذاذ الآفاق، وتبا لهم حيث ما كانوا، وكافر وخائن وعميل … ولمعت نجومية تراجي إلى جانب المهرج الديني محمد عبد القادر مصطفى، وظهر الجبوري، وأطلت عبر الفضائيات فرقٌ كذوبة مضللة، عرفت بالخبراء الاستراتيجيين البلهاء، والمحللين السياسيين الحمقى، تنشر الأكاذيب والتلفيقات والأراجيف، على غرار خذِّل عنا، والتوم هجو كذلك)، وامتلأت ثرى الوطن بالطراش والهُرار (وهو سَّلحُ الإبل) والصَّبيب المنتن؛ استفراغٌ وقيٌ يعبر عن مدى الكراهية والحقد الذي يغلي في صدور هؤلاء الرجال الحمقى، والقادة المخاريق، ذوي الرؤوس الفارغة، إلا من هذا الغثاء والهتر المنحوس. وما زال الصراع يحتدم، والشهداء يتساقطون فوق سُباتة عروسهم المنشودة: (حرية، سلام وعدالة والثورة خيار الشعب)، خُضرا كأوراق الأبنوس. وما زال خطاب الكراهية والتحريض والتخوين يتنامى مثل دخان الحرائق في غابات السافنا، والحلاقيم لا تنفك تلعن بعضها بعضا، ومكبرات الصوت تشحن الأجواء بفتاوي التكفير والتحريض على العنف واراقة المزيد من الدماء باسم الدفاع عن الدين، تزييفا للحقيقة، وتلبيسا للحق بالباطل، وتغبيشا للعيون عن الرؤية الصواب، وتغرر بالجهال. وسط هذا (الجَّحَم) السياسي الأرعن، يترنح الوطن، وسكاكين الطامعين في الجوار اٌليمي قد جرى حدُّها على حجر المسن، وتوشك أن تمزق هذا الثور الكلالي الذي بدأت ساقاه في الرجفان، وقد يقع. يا هؤلاء! إن لم يعلو صوت العقل والحكمة، فإن الوطن سوف يسقط تحت جحافل الغزاة، كما سقطت بغداد من قبل على يد التتار والمغول. فانتبهوا أيها القوى الشبابية الحية: إنهم يحرضون على تمزيق الوطن؛ إنهم يسوقونكم إلى الخرائب وإلى أوكار الغرابين! إنهم؛ بدءا من القادة الاسلامويين، الذين سبق وأن ملأوا السودان صراخا: (أو ترق كل الدماء) فأريقت الدماء، وتقطعت أوصال الوطن، ولم تلتئم الجراح حتى الآن، مرورا بعبد الحي يوسف، ومحمد علي الجزولي، ومحمد عبد القادر مصطفى ومزمل فقيري، وبرهان وحميدتي والتوم هجو وعبد الله مسار وسليمان صندل، وغيرهم. هؤلاء السادرون في مزالق التحريض وتمزيق الوطن، ما زالوا يكررون خطاب الكراهية المأساوي، ويرسمون صورة قاتمة، ومظلمة لمستقبلنا، لتصبح أرضنا المعطاءة سوقا لتصفية الصراعات، ومجالا للخصام والمشاحنات (العدمية) التي بلا شك سوف تنهك قوتنا وقواتنا، وتمزق نسيجنا الاجتماعي وتفت من تماسكنا، وتقطع لحمتنا بسكين، لا نعرف لها أصل ولا نسب، وعند ذلك سوف تكون الأرض كلها مرتعا خصبا للجماعات الإرهابية، ومسرحا الحروب الأهلية التي لا يسلم منها أحد. وقبل الختام، ذكرت كتب التاريخ أنه في الوقت الذي كان (التتار) على مقربة من بغداد سنة 656 هجرية، كان هناك صراع يدور داخل المدينة بين الحنابلة والشافعية حول مسألة الجهر بالبسملة من عدمه في إمامة المصلين. ووصل هذا الصراع إلى التلفظ على بعضهم البعض والتنابذ بالألقاب، والتراشق بالأحذية، وماهي الا أيام حتى اجتاحت جيوش (التتار) عاصمة الخلافة الإسلامية، واختفت بعدها البسملة سرآ وجهرا! فما أكثر التتار اليوم، وها هم قد ملأوا سوح البلاد، ويسعون في الأرض فسادا! فأدركوا الوطن أيها الشرفاء الأحرار قبل فوات الأوان، فالتاريخ لا يرحم الفرقة والشتات.