كلب السّيدة (نار الضّلع) جنفر Jennifer الأمريكية .. سمين جميل ، كذلك ودود وأليف ، أنيق معطّر بأفخرأنواع العطور ، هادئ الطبع لا ينبح وأكيد لا يعرف السّعر والعض إطلاقاً ، وينتمي إلي عائلة من أرقى أنواع الكلاب الألمانية .. كلب الكِريمت السّوداني .. الحال يغني عن السّؤال ، بل يكفي أنه كلب سوداني دون حرية إرادته . يقال عنه لا يستطيع الوقوف علي رجليه فترة طويلة من ألم الجوع والهِزال ، كذلك يستند علي الحائط كي ينبح أو ينبح وهو راقد على جنبه في الأرض ، أيضاً يعاني من ضيق في التّنفس أثناء النّبيح المتقطّع هذا إن كان يستطيع النبيح أصلاً !! كلب أهل الكهف الذي يحمل الإسم (قِطمِير) وهو نوع أخر من الكلاب ، به شئ من القداسة ، كما أنه الكلب الوحيد الذي سوف يدخل الجّنة مع ناقة صالح وناقة محمد وكبش إسماعيل وبقرة موسى وحوت يونس وحمارعُزير .. !! ……………………………………………………………………………… منذو أن طرقتُ باب هذا الوجود ، تنمّلت أعضائي العليا بشئٍ من المعرفة المتواضعة . من يومها لست متأكداً بشكل ما أنني متجانساً ومنسجماً مع الحياة بالقدرالذي يجعلني ألهث خلف الإمساك بسرِّ غموضها وبخاصة بحالة مايسمونها السعادة كمعيار أخلاقي لزج ، متداول الألسن والمعنى ، يصعب الإمساك به كثيراً ، بحكم أنني لا أسعى لذلك ربما لا أصلح لأمر كهذا أبداً مقارنة بتواضعي المعرفي الذي يجانبه الصواب كثيراً حتي عن معرفة كنه نفسي ناهيك عن التفكير في إمورأكثر تعقيدأ . كذلك بإعتباري كائن حيواني ، لم أنضج علي نار معرفة هادئة كما الألهة التي تعلم كل شئ إن صحّ ماسمعته . أيضاً أخشى إختزال لمثل هذا المفاهيم في لغة نصفها وهم والنصف الآخر سقم ، قائلا لهؤلاء الذين يسرفون في الحديث عن معناً رفيعاً للسعادة هم أحرار وبخيت عليهم في إدعائهم ذلك ، بيد أنني أخشى عليهم من مغبة غياهب الخيال ومشقة الإنفلات النفسي . من وجهة نظرأخرى ، لا أحبذ أن أخلق علاقة (باتافيزيقيّة) عبثيّة مع مفهوم يعتقده البعض في صلاحيته الزّمكانية المؤكدة ، كما لا أحب التصالح مع خداع نفسي مع ما لا أحسّ به أي كان مسماه . في ذلك اليوم الإستثنائي العجيب ، إتخذت مكاني في مقعدٍ في الحديقة المجاورة لمسكني كما أفعل أحياناً هروباً ، عندما أحس بأنَ الهواء في رئتي أقلّ من المُعتاد متلازماً مع توترٍ وقلقٍ يفيض عن أحتمالى ، كما أعتقد أن ذهابي للحديقة تحت ظرف كهذه حالة ربما طوق نجاة مؤقت من حالةِ إنهيارلا محالة قادمٌ . من غير سابق توقعٍ ، ظهرت أمامي ، كومضةِ ضوءٍ من كوة أفقٍ قاتم .. سيدة في الواحد والثلاثين من عمرها كما يبدو لي ، فائضة الحسن والجمال . ظهرت تتهادى كما يقول الشاعر خليل فرح (فرع بان إذا مشَى لعب الرّدف بالحشا .. وإذا إبتسم وإختشَى أخجل الظبي والرشا) أوكما يقول أيضاً الشاعر أبو صلاح (هزاز صدرو ميّل فدع الحصر النحيل) . كانت تتمشى بدعةٍ ولطفٍ إنثوي تقود كلبها الأنيق كأناقة مشيتها وزيها الفاتن المُحزّق الذي يضيق ذرعاً بمبروم خصرها الرّقيق وضجيج صدرها الطامح (زي خليج الرّوم). أتجهت نحوى بإيقاع خطواتٍ ليست بالعجلى ، متماهية تماما مع فائض قيمة جمالها الذي أضفى على الحديقة بٌعداً جمالياً أخر ليس فقط كمكان للراحة والإستجمام لكل من يسعي من أمثالي لخلع تعاسته الخاصة وتركها في المنزل بل صار جمالها هو الحديقة . في تلك اللحظات ترددتُ بين الهروب والثّبات بحكم أنني هيّنٌ وضعيف أمام هكذا جمال . همستُ متلجلجاً بلسان الشاعر ود الرّضي (ياعنتر هِز اشجع لاتفز دي غاره تمام) . كان كل شئ في داخلي غيرمرتب بشكل ما ، ومما زاد الأمر سوءاً حين فاجأتني بتموسق صوتها hi there مع حركة ترطيب شفتها السفلى بمقدمةِ لسانها ، أحسست ببعثرة في عقلي مع إنقباض مفاجئ في عضلات قلبي مصحوبة بجفاف في حلقي مع إضطراب عام ورعشة في جسدي كما المصاب بمرض الباركنسون (parkinson) لم أشعر بحالة كهذه من قبل حتي في عنفوان الملاريا . رداً علي سلامها خرجت كلماتي من فمي مصحوبةً بتلعثمٍ وحشرجة في حلقي كتعبير عن نفسي المتهالكة ساعتها . علي أية حالٍ أنا لا أُبرئ نفسي الأمارة دائماً بضعفي أمام الجمال خاصة في حالةٍ إستثنائيةٍ كهذه تجلّ عن الوصف وتتجاوز قدراتي النفسية علي التّحمل . my name is Jennifer نطقت أسمها بدلالٍ وغنجٍ طاغيٍ تذوب كلماتي عجزاً وإستحياء عن وصف معناه . وقف كلبها متأملاً في وجهي ، ثم إقترب مني بتحريك ذيله تعبيراً عن ترحابٍ وشعور إلفة . من جانبي بادلته التأمل والتّرحاب بمسح يدي علي فروة رأسه مع إبتسامة بلهاء مني لا أفهم معناها غيرأنها حصلت بطريقة لا إرادية ، أعتقد أنها رغم بلاهتها كسرت حاجز مايسمح بالإطمئنان ورفع الكُلفة عن ثلاثتنا هي والكلب وأنا . عينان واسعتان بالأمل والسعادة والجمال . تفاح خديها مع إبتسامتها الساحرة مصحوبة بشقشقة عصفور في صوتها أعادتني مرة أخري إلي فوضى وإرتباك في كل أعضائي (همست مع نفسي أنا منو؟ أنا وين؟ وليه ؟) . إسمه John ، هكذا نطقتها إشارة لكلبها الأنيق السّعيد ، ثم إستأذنت لتجلس معي في نفس المقعد الذي يتسع لثلاثتنا هي والكلب وأنا . لا أدري لحظتها إن كنت قد وافقت علي جلوسها معى أم لا ، بيد أنّ رائحة عطرها وعطر الكلب أيقظاني من حالةٍ الفوضى والإرتباك . نطقتُ لها أسمي أيضاً ، لست متأكداً لحظتها عن ما إذا كنتُ قد نطقته صحيحاً أم إختلط نطق إسمي بإسم كلبها في تلك اللحظة الحرجة ؟ . رددتْ هي أسمي عوض (أوووآآآآآد )Awad . هكذا جاء نطق إسمى من صوتٍ رقيقٍ مكتنزٍ بالإنوثة مُموسقٍ ومدوزنٍ كهمسِ هَينمَة كمانٍ في درجة السّوبرانو.. حاولتُ عمداً تجاهل سماع إسمي من شفتيها كي أسمعه مرة أخري وأخري وأخرى . رددت جنفر إسمي مرة أخرى (أوووآآآآآد ) . أشفقتُ علي نفسى من موسقة سحرِ صوتها ، كما سعدتُ بإسمي ولأول مرة أحسّ بأنّه يمكن أن يكون إسماً رائعاً وله مكانةً خاصة إذا ما عُومِل بطريقة رقة شفاه ولسان جنفر. تعارفنا تصافحنا وتآآآلفنا . اخبرتني بأن جذورها ألمانية كذلك كلبها جووون من جذورألمانية أيضاً ، ثمّ أعقبت ذلك بسؤال مفاجئ منها إن كان هناك ألمان في السّودان بعد أن أخبرتها بأنني سوداني المولد والجنسية … بضحكةٍ مكتومة مني تجاهلتُ سؤالها عن الألمان في السودان بسؤالى لها عن معني أسمها ، ثمّ عن سر ذكاء الشعب الألماني في مختلف العلوم وكذلك الفلسفة من أمثال أرنولد سومرفيلد ، أرنست كارل ، البرت إنشتين ، كانط ، هيغل ، ماركس ، هربرت ماركوز نيتشة … ألخ ؟ . تجاهلتْ جنفر سؤالي بالحديث عن كلبها جووون . لم أردد السؤال مرة إخري مما بدر لي أنّ ذلك لم يكن من إهتماماتها أكثرمن إهتمامها بكلبها الأنيق جوووون . بثقةٍ متعمدة وأسلوب برجوازي فاضح أخذت تحدثني عن جووون الذي أخذ مكانه جالساً بيني وبينها في هدوء وإطمئنان كطفلٍ وديعٍ . إستغرقت في الحديث عن إسلوب حياته وسلوكه معها ومع أصدقائها ، حيث أستمرت في الحديث طويلاً عن جووون بنشوةٍ غامرة عن حبها له ، عن جنسه وعمره، عن أكله وشرابه عن منامه وصحيانه عن ماذا يحب ماذا يكره .. ألخ. كل ذلك الحديث كان عن جووون . أحسست بمرارة حارقة وغصة حسرة في حلقي مصحوبة بتقلص وإنقباض في أحشائي حين تداعت في لاوعيي تلك الذكريات الأليمة الماضية حيث كنت حينها صبيٌ في عمرالشباب . في ذات يومٍ حزين كانت هناك حملة لقتل الكلاب الضّالة في القرية . أُسُتُدِعي أحد العساكر بشكله وزيه القمئ حاملاً بندقيته الصّدئة . كانت لنا كلبة ولوفة معها إبنها الذي تجاوز مرحلة الجرو إلي كلبٍ صغير . (حتي الكلاب تعرف أعدائها من العسكر) . أخذت الكلبة وإبنها ينبحان في العسكري قبل أن يصوّب بندقيته بلا رحمة علي إبن الكلبة الصغير حيث خرجت أمعائه من بطنه بتلك الطّلقة المميتة . فرفر الكلب الصغير ثمّ فارق الحياة بعد لحظات . الأمر الذي كان أكثر ألماً ، أنّ أم الجرو الكلبة أخذت تنبح وتنيص طول اليوم ثم أرهقها التّعب ، إتخذت مكاناً لها جالسة بقرب جذع شجرة النّيم ، مستمرة في النّباح والنّيصان طول ذلك اليوم. كنت حزين لذلك المشهد الماساوي ، أحضرت لها طعاماً وماء ، رفضت الكلبة ذلك تماماً حيث أستمرت علي هذه الحالة الأليمة ثلاثة أيام حتي فارقت الحياة في مساء اليوم الثالث . هل الكلاب تحس بالألم وتشعر بالحنينِ وفقد الجنين مثل الإنسان ؟ أفقت من تلك الذكريات المؤلمة بحركة من جووون كلب جنفر السعيد الذي غيرّ من جلسته حين داعبت يدها النّاعمة فروة راسه ، ثم إنحنت قليلاً إلي الأمام وقبلت جووون بشفتيها العسلاويتين في المساحة مابين أذنه وعنقه. من جانبي طردتُ من رأسي فكرة عنيدة راودتني بأن أقبّل جووون في نفس مكان قبلة جنفر كتعويض مُشتهاء لقبلة في مكانٍ ما من جسدها لإطفئ لظىَ جحيم ناري وجفاف حلقي ونشاف روحي وذكرياتي التّعيسة الأليمة في تلك اللحظة . تمنيت في نفسى لو يجدي التمني أن أكون أنا في مكان جووون هذا الكائن سعيد الحظ كي أحظي بتلك السعادة والتّرف العاطفي وتلك القبلة الحنونة ومس تلك اليد البضّة الناعمة ولكن الشّقي ما أظن يسعد كما يقول المثل !! . زجرت طموح عواطفي وإشتهائي بسؤالٍ عن نوع عطرها الفاخر أم هذا عطرأنفاسها ؟ كذلك عن عطر جووون وعن وجباته المفضّلة ؟. أثناء سرد إستجابتها لسؤالي ، عاودتني ذكرياتٌ أليمة أخري مخزونة في لاوعيي عن كلب آخر ، هو كلب الكِرِيمت . الكريمت لمن لا يعرفها ، هي أحدي القرى الفقيرة بنواحي المناقل بولاية الجزيرة ، حيث يقال إن صحّ ماسمعته أن الكلب في هذه القرية والقرى الأخرى ، لا يستطيع النّباح مالم يستند علي حائط أو ينبح وهو راقدٌ علي جنبته على الأرض ، مصحوباً ذلك بمعاناة ٍ وبأنفاسٍ متقطعةٍ أثناء النّباح من أثر الهزال وسقم الجوع مع فقر الدم وضعف الطاقة . معلوم أن الكلاب في قرى السّودان المتعددة والمختلفة تعتمد علي الصّدفة في عيشها أو الأكل من بقايا حيوان ميت (رِمة) أو بقايا عظمة منزوعة اللّحم يجود بها صاحبها بعد أن كدّها ومصّها جيداً ، والذي هو الآخر في حوجة إلي غذاء اللّحم والعظم بإعتباره من الطّبقات الكادحة (البروليتاريا) في المفهوم والتّصنيف الطبقي لأؤلئك البشر الذين عليهم كل شئ ولهم لا شئ رغم مجهوداتهم وأتعابهم في العمل والزراعة وغيرها من الأعمال المُتعبِة الشّاقة المستمرة . إن كلب الكريمت مقارنة بكلبِ جنفر ماهي إلا مقارنة أيديولوجية طبقية ، بإعتبارها أعنى الأيديولوجيا جزء من البناء الفوقي كما يقال ، في داخل نسقها السياسي القانوني الفلسفي الأخلاقي الجمالي والديني .. ألخ ، في جدل مع البناء التحتي والعلاقات المادية الإقتصادية المعيشية (الطّبقية) في الدول والمجتمعات والذي يتكشف موقع الطبقة المعنيّة من خلال الصّراع والتّطاحن والإستغلال بين الغنا والفقر ، مما ينعكس ذلك ليس فقط علي الإنسان ، بل كذلك علي الحيوانات التي يمتلكها ذلك الإنسان في تلك البئة القاسية . يعيش كلب جنفر في بحبوحة من النّعيم بحكم سيطرة الأيدولوجيا وسيطرة الطبقة المُترفة التي تنتمي لها جنفر ذلك ما يعكس أسلوب طريقة وحياة جووون ، فهو سمين وجميل وودود ومعطّر بأفخرأنواع العطور كذلك يتم إستحمامه والإعتناء به يومياً ، لا ينبح لا يمرض بداءِ السّعر ولا يعض إطلاقاً ، مقارنةً بكلبِ الكريمت الذي يعيش في محيط طبقة فقيرة معوزة عليه واجب السّهر وحراسة البيت وساكنيه من الأعداء والحرامية أثناء اللّيل والنّهار ولا ينوم إلا قليلاً ، مقابل لقمة من الكسرة الجّافة هذا إن كان محظوظاً تُرمي له في تراب الأرض ، أوعظمة حافية من اللحم إن وجدت العظمة أصلا والتي غالباً ما يتم شراء اللّحمة للفقراء في يوم الجّمعة نسبة لحالة الفقرالمُدقع . سرحتُ عميقاً وبعيداً في أحوال الكلاب ، حيث مرّ بذاكرتي كلبٌ من نوع آخريدعى (قِطمِير) ، إذ يقال أن قطميرهذا هو أسم كلب أصحاب الكهف الذي نام معهم ثلاثمائة وتسعة سنين في كهفهم (باسطٌ ذرَاعَيْه بِالْوَصِيد) حيث إكتسب مكانة قدسية مرموقة غير الكلاب الأخرى !! ، يقال كذلك أنه الكلب الوحيد الذي سوف يدخل الجنة مع ناقة صالح وعجل إبراهيم وناقة محمد وكبش إسماعيل وبقرة موسى وحوت يونس وحمار عُزير !. أما كلب الكريمت الذي قلنا عنه لا ينوم الليل إلا قليلاً بسبب مسؤلية الحراسة وسوء التغذية وفقر الدم والهزال، كل ذلك لم يشفع لهذا الكائن البائس التعيس ويؤهله لدخول الجّنة إذ يظل ضائع في الحالتين الدّنيا والآخرة بلا جرم إرتكبه غيرأنه وجد نفسه مجبراً علي الحياة دون إرادته في بلدٍ فقيرٍ وفي طبقة إجتماعية مُستَغَلَة مادياً وأيديولوجياً وهذه الحال والأحوال التّعيسة في تلك البئة البائسة والتي ليس له خيار ومفر آخر سوى الموت المحتوم.. نواصل الحاصل [email protected]