في مفترق طرق صنعته أزمة أجيال وبدء تعليم وضعفه وقصوره وتداول للكتب الممنوعة وقت ذاك.. تقدم ثلة من الطلاب يشغلهم ويضنيهم بقاء المستعمر بالبلاد ويريدون فهم قصته وكيف يمكن أن يستنهضوا الناس لمقاومته والتصدي له.. تخلقت في ظل تلك الظروف العجيبة معجزته.. وكان منذ الطلب مشاغبا ومفصولا من المدارس وملاحقا من الأنظمة المتعاقبة التي حكمت البلاد، و"بقي على قيد الحياة" فهو من نسج حقولها، وقال كلمته في تواريخ مزلزلة وهذه المعجزة الثانية. تقدم الأستاذ محمد ابراهيم نقد للعمل السياسي في بواكير حياته كشخص مزعج للسلطات البريطانية الاستعمارية، وفصل من دراسته وأبعد مثلما ابعد رفاق له، ومن عجب أنه قضى حياته كلها منافحا للأنظمة ومتحديا لها ومع ذلك احتفظ بشخصيته الفريدة النادرة التي لا يماثلها قريب أو بعيد.. فهو في العمل السري والعلني شخص شديد الانضباط والالتزام والفهم الواسع لكل ما يحيط به وبالأخرين، وعاش حياته كراهب متبتل في معبد فكره وأخلص له، منظما كل شئون الحياة على اختياراته وقناعاته، وتلك مآثرة لا يحتملها الإ ذو قلب سليم وعقل جبار. لقد كتب عنه الكثيرون وحاورته كفاحا.. ربما يكون ذلك أطول حوار أجري معه، وكانت شخصيته الساحرة محيرة لكل من شهدوا ذلك الحوار.. وسأعيد نشره في مقبل الأيام. وهو من شدة فرادته لا تدري لأي جيل ينتمي.. وكان صلبا ولكنه لم يعدم من رموه ذات يوم بالنعوت من شاكلة ضعفه وسؤ تقديره، ولا يعلم هولاء أن رجالا مثله يمتد بصرهم لفضاء غير مدرك، لأنهم من المفكرين ولأنهم عركوا سبل الدم والموت وكانوا فيها راكزين، ولم يكن ذلك فحسب، انما كانوا شجعانا وكبارا وهم من طاردهم الموت ليلقف أرواحهم، لكن قالوا لنا مهمة واجبة الإنجاز يجب أن تنجز وخرجوا لها بغير ابطاء ولا تبديل.. فبعثوا للوجود حزبهم وفكرهم ورعوه في تربة يابسة، حتى تفتح زهره في كل شارع وحي، وبزغ في تمامه وتقدم في ثورات الشعب كافة وكان منهلا عذبا شديد الزحام، وتكفي فقط تلك الحشود الزاحفة التي شيعته في هدأة الأبدية. ينتمي الأستاذ العظيم نقد لجيل صعب المراس ومتقدم الفكر.. وأسهم جيله في بناء جديد امتلكه الشعب السوداني في زمان لم يكن الناس يملكون فيه شيئا بسبب الاستعمار الذي حظر كل حراك يخص السودانيين، وكذلك بسبب الفاقة ونقص التعليم، وساهم مع رفاقه في تأسيس اتحاد للشباب وابتدروا تأسيس النقابات، وإتحاد للنساء وتنظيمات الطلاب للمرة الأولى، وكانوا بالطبع من طلائع الجبهة معادية للاستعمار. ولأنه عليم بحجم متاعب التأسيس كان حريصا طول حياته على ضرورة عدم هدم هذه المؤسسات والحفاظ عليها مهما كانت التضحيات.. وقد افلح غرسه ونضاله فإذا رأيت في ثورة ديسمبر ثوار وشباب السودان يترنمون باشعار محجوب شريف أو محمد الحسن سالم حميد أو القدال أو أزهري فتبين أن ذلك انما يكتب في سفر الخلود لرفاق مثله هتفوا من قبل ضد استعمار البلاد، وفصلوا من مدارسهم وكلياتهم، ولم ينظروا للوراء انما مضوا كخيول الريح في جوف عتامير السودان بذلا وكفاحا وسيخلدوا على مدى الأزمان. تقلد الأستاذ نقد مقاعد البرلمان مرتين تارة في ستينات القرن الماضي عن دوائر الخريجين، وتارة أخرى عن دائرة الديوم الشعبية والعمارات، وقاد حزبه لتحالفات شتى منها ذلك التحالف الذي اسقط مايو بعدما عالج بدأب وصبر قطيعة تأريخية بين حزبه والأحزاب الكبيرة في السودان الأمة والاتحادي قامت على تقديم مصلحة البلاد على مشاكل التاريخ الملتهب، فهم قد سعوا ابتدأ لوأد حزبه وحظر نشاطه في الستينات واقصاءه عن المشهد السياسي وجأت مايو 1969م وحملت شعارات حزبه بانقسام صفه وجرى دم كثير حملوه لحزبه.. وبقي معزولا حتى حينما اشتد جرحه في يوليو 1971 التي أطاحت برفاقه وسجلته كشخص مطارد هو وغيره باعلانات الدولة الرسمية، فاضطر للاختباء هو ورفاق له وعقدوا اجتماعا نادرا وسوو صفهم لجمع ما تفرق، وكانوا على قدر التحدي.. وسدادين فجايج الموت. غير انه لاحقا قد عالج تلك المعضلات ولعب دورا كبيرا في تعديل ذلك المسار حينما طرح حزبه شعار وحدة قوى المعارضة هو الحل لإسقاط مايو.. والتقى سرا بقادة الحزبين وتعدل ذلك المسار حتى جأت الانتفاضة، وخرج للوجود أول تجمع وطني جمع كل هذه الأحزاب مرة أخرى لاسقاط مايو في 5 ابريل 1985.. فأي عبقرية تلك التي يمتلكها ذلك القائد العظيم الذي فقدنا وما الذي فقده السودان في عز احتياجه. اما في عهد غيهب الانقاذ فقد صنع مع رفاقه السجناء في كوبر فكرة التجمع الوطني وخرجت للوجود، كانت فكرته للتحالفات واضحة وبسيطة وقالها مرارا نحن وحدنا.. كل حزب لوحده لا نستطيع تغيير هذا السودان الماهل المعقد، وتلك فكرة من شدة صوابها يحار الانسان كيف يمكن أن لا يتصورها أحد، ومن لا يفهمها بالتأكيد لن يفهم كيف يمكن أن يغلق ميناء السودان بواسطة قائد قبلي مثل ترك، ويتساءل المرء هل كان يمكن أن يحدث لو كان هو على قيد الحياة. كان عظيم القوم نقد مفكرا ذائع الصيت يدرك قدره الصديق والعدو ويحترمه الجميع، إمتلك نواصي الكتابة والكلم وأجاد فيها إجادة محيرة، فهو باحث وعالم، وما من قضية تشتبك على الناس الإ قدم فيها رؤية متفردة وغائبة، وكان نهما للقرأة والاستزادة من العلم، ولن أحدث عن منتوجه الجبار عل أحد يدفعه الفضول لقرأة ما كتب. نحن رفاق وتلاميذ وأحباب وأشقاء أمثال هولاء الرجال العظماء الذين كانوا شجعانا في كل أوقاتهم، وأذكياء بما يكفي لاستيعاب فكرة خطر التعامل مع بلد كبير باهمال عناصره المكونة له. كان تراث أستاذنا العظيم يمتد من سهل لدغل ولأنه عرك الحياة لم يدع أبدا لها مجالا مجالا لصرعه.. فدهمه موت طارئ وسنلتقي مع افكاره واطروحاته بعدها وقبلها مرارا، انه كان قائدا لأمة، ويرى بفؤاده إن الفؤاد كان مسئولا. اما عن فوح البساتين والشعر والغناء فسل عنه الفرقدين.. فما أظن انسانا تذوقهم مثله، ولا أظن شخصا بالغا عاقلا كتم لواعجه مثله.. ولا أظن أن في ظرفه وإبداعه مداني حتى بين اعضاء حزبه فهو أقدر من كل فنان سمعته على إجادة الغناء. وتلك كتابة المحبة وهي محبة تتعلق بنقد القائد والمعلم، وبإسترداد الوطن، وتذكير برموز نذرت حياتها للانفكاك من الأنظمة الديكتاتورية، في الطريق الى السادس من ابريل، سنذكر كيف ضحى نفر عزيز منا للدولة المدنية التي صك مصطلحها هو بنفسه، وكتب ونظر لها حتى غدت بعد رحيله أنشودة ثورية يتردد صداها في كل البلاد.. الدولة المدنية هي مصطلح صكه ود مليم.. مدنية مدنية والثورة سلمية. الثورة مستمرة وستنتصر