والدتي والتي تقترب من الثمانين من عمرها، تبتدر صباحها يوميا بسؤالي، ألن نرجع إلى البيت اليوم، فيقلب علي سؤالها كل المواجع والألم، تخنقني العبرة، تمتلئ عيناي بدموع القهر، أحتار كيف أجيب سؤالها، الذي أطرحه على نفسي ألف مرة في الدقيقة!!! هل سنعود!؟ هل سنعمر بيوتنا الخالية مرة أخرى؟ متى سينتهي هذا العذاب الذي طال؟ كيف يعقل لامرأة في خريف العمر أن تشرد من منزلها؟ أن تغادر عشها الآمن الذي قضت فيه عمرها؟! جميعنا يعلم ارتباط أمهاتنا الحبيبات بمنازلهن، وأن البيت بالنسبة لأي إمرأة هو مملكتها، هي الملكة المتوجة على عرش بيتها، مفهوم البيت عند المرأة أكبر بكثير من الرجل وارتباطها به أقوى، والمرأة بتكوينها العاطفي ترتبط وجدانيا بمنزلها، كل زاوية وركن في المنزل تجمعها مع سيدة البيت علاقة عاطفية وجدانية، قويت أواصرها على مر الأيام، وتربطهما معا كم من التفاصيل والذكريات، أي مكان في البيت له نصيبه من القصص والحكايات، ضحكات الأبناء، مناسبات الأفراح وحتى الأحزان، تربط بين المرأة ومملكتها الصغيرة، والدتي المسنة متعها الله بالصحة والعافية والعمر الطويل العامر بالطاعات، ربما هي من أكثر ممن التقيت في حياتي من النساء ارتباطا ببيتها، فهي لا ترتاح إلا بين جنباته، ولا تستقيم حياتها إلا وسط جيرانها الذين أمضت معهم عمرا، وحتى عندما كانت تسافر لزيارة إخوتي المهاجرين، كانت تعد الأيام بالدقائق حتى يحين موعد عودتها إلى البيت،،، في لحظة مجنونة اضطرت هذه المسنة لمغادرة بيتها قسريا، أصبح عليها صباح لا يشبه صباحاتها الزاهية، وجدت نفسها في سرير يختلف عن سريرها الذي ألفته وألفها، تلفتت يمنة ويسرة لتجد المكان غير المكان، بحثت بعينيها عن أشيائها المألوفة فلم تجدها، استرقت النظر علها تجد أصايص الزهور والنباتات التي تشرف بنفسها على سقايتها، أرهفت السمع لتصلها أصوات الجارات وهن يصبحن عليها، لم تجد شئ من حياتها التي تحبها، تألفها وترتاح فيها، وجدت أمي المسنة نفسها في مكان غريب، لم تستطع تقبله ولا التعود عليه، تستمر في طرح السؤال: هل سنعود اليوم إلى البيت!؟ لماذا فعلوا بنا هذا! لماذا ظل هذا الوطن الملئ بالخير لعنة علينا طيلة حياتنا؟ لماذا نحن الشعب السوداني المسكين ظللنا دوما ندفع ثمنا غاليا، لفساد الحكام، بلادة الساسة وعنجهيتهم؟ لماذا موارد هذا البلد الثري كانت نقمة وليست نعمة؟ أليس من حق والدتي الثمانينية، أن تعيش حياتها بكرامة وعزة، أن تقضي شيخوختها في منزلها الآمن وهي مطمئنة وهانئة برفقة ذكرياتها وجيرانها؟؟ أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينتقم شر انتقام ممن زعزع أماننا وشرد كهولنا، أن يصب غضبه عليهم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر،، [email protected]