……………….. كاستوربا … الحكاية الأولى!!! …………………………………. تلفتُ حولي في فضولِ ظلّ يلازمني كقريني مذ عرفت حياتي معني الأسفار.. تسمّرت عينا ابنتي "منة الله" في الشاشة الصغيرة أمامها حيث تدورُ أحداثُ فيلم أمريكي ما …أما زوجتي فطفقت عيناها تنظران إلى آفاقٍ داخل نفسها .. تلك هي عادتُها كلما حاصرها قلقٌ أو ترقبُ ما …. اهتزت الطائرةُ السعودية العملاقة …فقفز سنجاب ذاكرتي إلى طائرات "سودانير" المنكوبة ..و إلى صالة "مطار الخرطوم" الضيقة ومكاتب ضباط التأشيرة التي تشبه أكشاك السجائر التافهة …. لثلاثين عاماً اقتصرت مهمة ذاك المطار الرديء على حلب الرسوم منّا وتهريب ذهبِنا إلى بلاد البلاشفة وبعض الدول العربية ( الشقيقة ) .. و لثلاثين عاماً ظللنا نلوكُ حُلم " مطار الخرطوم الدولي الجديد" الذي ظلّ يخدّرنا به صعاليك المشروع الحضاري البائس …ملياراتٌ نُهبت من ورائه … تلك هي حكاياتُ البلدانِ التي يحكمها العسكر … .. طاف بذاكرتي حينها قولُ صديقٍ ساخر " جيشُ السودان هو الجيش الوحيدُ الذي يطالب الشعب أن يقاتل عنه، لكنه يصرُّ أن يحكم نيابة عن الشعب " … تلفتُ حولي داخل الطائرة …مئاتُ الوجوهِ الهندية السحنة … جلّهم أسمرٌ مثلنا … و جلُّهم تفوحُ منه روائحُ التوابل و كأنهم وُلِدَوا في مزارعِها … ركضتُ بذاكرتي للوراء … إلى حصة التاريخ في الصف السادس الابتدائي…تلك كانت بداياتُ سماعي لاسم "الهند" …قال لنا أستاذُي العظيم " الجيلي الطيّب" يوماً إن "نابليون بونابرت" قرّرَ ألّا يهاجم "بريطانيا" مباشرةً بسبب قوة أسطولها البحري… و آثرَ احتلال "مصر" حتي يقطعَ وصول خيراتِ المستعمرة الهندية إلى بريطانيا … في المرحلة الثانوية في "المناقل" بدأتُ أقرأُ عن "المهاتما غاندي " .. بهرتني عظمة الرجل و سياسة اللّا عنف التي ركّع بها الإنجليز و عرّاهم بها أخلاقياً أمام الكون .. مثلما بهرتني حياته البسيطة التي تقترب من السحر : زعيمُ أمةٍ يحلبُ معزته بنفسه و ينسجُ من صوفها ثوباً له و يخاطب ملكة بريطانيا و هو يتوكأُ على عصاه تلك ؟!!! ..يا له من رجل !!! في ذات المرحلة الثانوية تفتّحت نوافذُ وعيي على السينما …و بدأ شغفي بالأفلام الهندية تحديداً لأسبابٍ كثيرة … منها أنني كنتُ وقتها شفّاف الروح ككوخٍ زجاجي غسله المطرُ للتو… كانت الأفلامُ الهندية تمثّلُ شرفةً أطلُّ منها على عالمٍ مختلفٍ بجغرافيته وشخوصه …وأذكرُ أنني كنتُ أجلسُ متسمّر الروح، لاهث النبض وأنا أشاهدُ أجساد الممثلات الهنديات وهنّ يمسنَ في إغراءٍ مجنون … كنّ نساءً تضجُ أجسادُهن بالحياة ( لا كصبايا عالمي الحقيقي الناشفات كبقايا عيدان الذرة في حقلٍ تم حصادُه بإهمال )….و كنتُ أغوصُ كذلك في مشاهد الجبال و الحقول و الأنهار و الورود بجوعٍ هائل للجمال .. أيضاً كانت الأفلام الهندية تغذّي في دواخلي فكرة البطل الخيّر الذي يقضي على جيشٍ عرمرم من الأشرار بصيحةٍ من فمه أو ضربةٍ من قبضته … كما كانت تطوّرُ لغتي الإنجليزية (أذكرُ أنني استمعتُ إلى كلمة drugs لأول مرة في فيلم هندي) …هذا طبعاً بجانب شغفي الفطري بالحكايات …و الأقاصيص ..و بجانب أن المزاج الموسيقي الهندي يماثلُ مزاجنا ..فالسلم الموسيقي للهنود خماسي مثلنا في السودان….. استغرقت الرحلةُ من " جدة " إلى " نيودلهي" حوالي خمس ساعاتٍ كاملة … هبطت الطائرة بعدها في مطار " انديرا غاندي " … بدت لي عبر النافذة هياكلُ طائراتٍ عملاقةٍ و سياراتُ مبعثرةٌ بينها …و بين الفينة و الأخرى يركضُ نفرٌ من العمّال بلا سببٍ واضح … كانت الساعةُ حوالي الثانية عشرة ظهراً بتوقيت الهند ….حملتُ حقائب الظهر الخاصة بي و بزوجتي و ابنتي و توجّهنا صوب باب الطائرة الأمامي للنزول …هناك وجدنا المضيفات مصطفاتٍ يرحبن بالركاب بلغةٍ إنجليزيةٍ أنيقة ( و ابتساماتٍ أكثر أناقةً ) و يتمنين لهن طيب الإقامة في نيودلهي ..و كعادتي توقعتُ أن أهبط من سلالم الطائرة إلى الأرض ..ثم استقل بصاً إلى بوابة المطار ثم أدلفُ داخله حيثُ أنهي معاملات الجوازات ..بيدَ أنني وجدتُني أسيرُ في ممر طويل …سألتُ رجلاً هندياً يرتئسُ ( على وزن ينتعلُ ) عمامةً إن كنا سنستقل البص فأجاب بكلمة " لا " .و طلب مني السير مع بقية الركاب ..( علمتُ فيما بعد أن هذا الممر هو أسطوانة عملاقة تلصق بالطائرة وتقودُك إلى داخل المطار مباشرة )….سرنا حوالي العشرة الدقائق …و في كل زاوية نجدُ من ينحني ترحاباً بنا .. ومن يدلنا على الاتجاه الصحيح … لم أجد في سيري ورقة أو ذرة غبار واحدة (قرأتُ في لوحة داخلية أن مطار انديرا غاندي فاز بجائزة أفضل مطار في آسيا الوسطى لخمس سنوات متتالية) ….سارت زوجتي بجانبي في صمت …أما ابنتي منة الله فظلّت تعلّقُ على شعر الموظفات الراكض في ظهورهن كما الخيول ….سألتُ نفسي في حسرةٍ " مالذي ينقصُ بلادي لتمتلك مطاراً كهذا ؟ …و متي يخرجُ من صلب هذا الشعب العظيم من يجعلُ السودان همّه الأول و يعاملنا كبشرٍ لا كهوام ؟" .. عند معاملات الجوازات اقترب مني ضابطٌ ممشوق القوام ، وسيم الطلعة.. وسألني بلغة انجليزيةٍ هنديةِ اللكنة عن جنسيتي.. قلت لي إنني سوداني فأشار بيده إلى جمع غفير جهة اليسار وطلب مني أن أملأ استمارة هناك …انضممتُ إلى الجمع بعد أن طلبت من زوجتي و ابنتي أن تلزما بقعةً معينة …تلفت حوالي.. جلّ القادمين هنود …لكن هناك خواجات كذلك : …أمريكان و انجليز و طليان و فرنسيون ..ميّزتهم بلغاتهم و لكنتاهم .. الهندُ هي قبلة الغربيين الباحثين عن السحر.. و مقصدُ من سئموا من حضارة الاسمنت فقرروا البحث عن الروحانيات … لفتت انتباهي سيدةٌ أمريكية ذات رأس أصلع تماماً … استبعدتُ احتمال اصابتها بالسرطان من ابتسامتها و الساري الهندي الذي تتمنطقُ به .. لابد أنها عضو في جماعة دينية هندية ما … سألتُها عن الاستمارة فقالت بابتسامة " كم شخص معك ؟" أجبتها فمدت لي ثلاث استمارات و قلم .. و اختفت في الزحام … ملأتُ الاستمارات ..سألني الضابط عن سبب الزيارة فقلت له " طبية"…سألني عن مكان إقامتي في نيودلهي فقلتُ له " حي كاستوربا" ..تلك كانت كل معلوماتي عن العنوان ..هزّ رأسه و قال معتذراً" عفواً ..نريدُ العنوان بالكامل يا سيّدي ..أعني اسم الشارع و رقم المبنى و رقم الشقة و رقم هاتف لو وُجد " ( وقعت عبارة " يا سيّدي " في أذنيّ موقعاً غريباً إذ لا أذكر أنني سمعتُها في مطار الخرطوم و مطارات المملكة ) ..قلتُ له إنني أزور الهند للمرة الأولي ..و أن وكيلاً سودانياً استصدر لنا موافقة المستشفى و بعث لنا بالتأشيرات إلى السفارة الهندية في الخرطوم …رفع الضابط رأسه منادياً زميلاً له …قادني هذا الأخير إلى مكتب رجلٍ بدا و كأنه يعسوبُ من حوله جميعاً ..جلستُ قبالته فسألني عن رقم هاتف الوكيل السوداني… أعطيته إياه …فهاتفه من هاتفه الخاص لمدة دقيقتين … ثم كتب شيئاً على ورقة صغيرة …و طلب مني في أدب جمٍ أن أعطيها إلى ضابط الجوازات …و هكذا مُنحنا تأشيراتِ الدخول. تتبعتُ التعليمات المكتوبة باللغتين الهندية والإنجليزية …واستلمتُ حقائبنا …وضعتُها في عربةٍ صغيرة وخرجتُ.. كنتُ أبحثُ عن شاب سوداني يدعى " محمد عاطف "…لم يكن معي عملة هندية ولا شريحة هندية للاتصال به …وقفتُ أجوسُ في الوجوه لبعض الوقت …ثم اقتربتُ من شابٍ هندي طويل الشعر …حييتُه فردّ بابتسامة.. استأذنتُه أن يربط هاتفي بشبكة الانترنت الخاصة به.. ففعل ببساطة متناهية …اتصلتُ بمحمد عاطف فجاءني صوته دافئاً شديد السمرة… سألني الشاب الهندي إن كنتُ في حاجة إلى خدمةٍ أخرى …شكرتُه فانصرف ….بعد دقائق عانقني " محمد عاطف" و كأنه يعرفنُي من عهد السلطنة الزرقاء … انطلقت بنا السيارةُ بسرعة ( عرفتُ أنها تابعة للمستشفى التي أرسلت إلينا التأشيرات) …سألتُ " محمد " كيف يُرسل مستشفى سيارة لمريض فردّ بابتسامة عريضةٍ " المستشفيات هنا تتنافس في إرضاء الوكلاء الذين يحضرون المرضى من افريقيا عموماً والسودان خصوصاً …و مستر حافظ – الوكيل الذي أعملُ لديه – رجلٌ يتمتع بعلاقات قوية مع الأطباء " تهادت بنا السيارة في شوارع نظيفة و مغسولة بالمطر …لا كشوارع بلادي المحكوم عليها بالحلم المؤبد …!! ……….. يتبع …….. [email protected]