أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "مرصد الجزيرة لحقوق الإنسان يكشف عن انتهاكات خطيرة طالت أكثر من 3 آلاف شخص"    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    د.ابراهيم الصديق على يكتب: معارك كردفان..    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    سيناريوهات ليس اقلها انقلاب القبائل على المليشيا او هروب المقاتلين    عثمان ميرغني يكتب: المفردات «الملتبسة» في السودان    خطوط تركيا الجويّة تدشّن أولى رحلاتها إلى السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. خلال حفل بالقاهرة.. فتيات سودانيات يتفاعلن في الرقص مع فنان الحفل على أنغام (الله يكتب لي سفر الطيارة) وساخرون: (كلهن جايات فلاي بوكس عشان كدة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    حياة جديدة للبشير بعد عزله.. مجمع سكني وإنترنت وطاقم خدمة خاص    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    هدف قاتل يقود ليفربول لإفساد ريمونتادا أتلتيكو مدريد    كبش فداء باسم المعلم... والفشل باسم الإدارة!    ((أحذروا الجاموس))    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    مبارك الفاضل..على قيادة الجيش قبول خطة الحل التي قدمتها الرباعية    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    السودان يدعو المجتمع الدولي لدعم إعادة الإعمار    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    السودان يستعيد عضوية المكتب التنفيذي للاتحاد العربي لكرة القدم    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    عودة السياحة النيلية بالخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس سودانية ترفض "رش" عريسها بالحليب رغم إقدامه على الخطوة وتعاتبه والجمهور يعلق: (يرشونا بالنووي نحنا)    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سحر الأمنية أرض الحبشة بين الجمال والفقر
نشر في الراكوبة يوم 03 - 04 - 2024

جادت لنا الأقدار ، بزيارة إلى أرض الحبشة، قضينا فيها أكثر من شهرين ، وتنقلنا في السكن بين أكثر من حي من أحياء العاصمة أديس أبابا. منذ الوهلة الأولى ، بفضول الولهان بسحر الأمكنة ، شرعنا في رصد أدق التفاصيل العامة لطبيعة البلد ، والسلوك الاجتماعي للشعب الأثيوبي ، وطريقة معيشته ومزاجه العام ، في محاولة لسبر أغوار مكامن السمعة الطيبة لمهد الحضارات ، وعاصمته الساحرة أديس أبابا، وحقيقة زخم الاقتصاد السياسي الأثيوبي ، ومعرفة ما أمكن ، هل هذا الزحم واقع أم مبالغة.
لا نظن هناك شعب في العالم يشبهوننا كما الأحباش ، يشبهوننا في كل شيء ، في تنوع الحسنات ، وفي الشعر المجّعد ، والشعر السبيبي ، والنخرة والفكين ، في الأطوال والأحجام الجسدية ومهما كانت مستوى حدة فراسة الواحد منا ، سيخطئ في تمييز بين الشخصية السودانية والحبشية ، إلاّ عن طريق اللغة أو الزي الشعبي ، وبعض التفاصيل النسائية.
أرد الدكتور النور حمد في مقالاته الماتعة [لماذا يصحو مارد الهضبة ويخفو مار السهل (1)] "تلتقي الشعوب السودانية ، على اختلاف هوياتها الثقافية بالشعوب الإثيوبية ، على اختلاف هوياتها ، هي الأخرى ، في القيم الروحانية الكبرى ، كعزة النفس ، والاكتفاء بالقليل ، والتكافل ، والتوادد ، والتراحم، والمسالمة ، والبر المنقطع النظير بالوالدين. هذه القيم مرتكزة على إرثٍ إنساني عميق الجذور ، يقع في ما وراء تبسيطات المؤسسات الدينية الرسمية ، وجهالاتِ النخب وأوهامها".
منذ الأيام الأولى ، انتابتنا وعكة صحية ثقيلة ، ظننا من أعراضها ، إنها ملاريا اللعينة ، انتظرتنا في مكمن ، إلاّ أن صيدلي أثيوبي شاطر ، وواثق من علمه ، طمأننا ، أن بلاد الحبشة ، لا تعرف الملاريا ، ولا ترحب بإناث الأنوفلس ، فيما بعد عرفنا ، أن تلك الوعكة ملازمة لكل من يزور الهضبة الأثيوبية لأول مرة ، إلا من رحم ربه ، والسبب أن مدينة أديس أبابا ، تقع على ارتفاع (2,300 متر) فوق سطح البحر ، مما يجعلها خامس أعلى عاصمة في العالم ، الأمر الذي يربك الدورة الدموية ، بسبب نقص الأوكسجين ، تعافينا بعد فترة ، إلاَ أننا لم ننعم بالنوم العميق طيلة فترة الشهرين. وتفاجأنا أن مدينة أديس أبابا لا فرق يذكر لديها بين فصليّ الصف والشتاء ، ومؤشر المناخ : 0.79 حسب التقييم العالمي ، إذ تتمتع بمناخ شبه استوائي ، حيث تكون درجات الحرارة الصيفية دافئة ولكن ليست حارة ، بينما تكون فصول الشتاء معتدلة للغاية. وهناك اختلافات طفيفة في درجات الحرارة طوال العام.
المدينة هادئة ، وتكاد تخلو من الضوضاء أو التلوث الصوتي كذلك ، اللهم إلاّ الذين يسكنون جوار الكنائس ، وهي تستخدم مكبرات الصوت في التراتيل الإنجيلية ، شبه الراقصة ، على مدى الأسبوع تقريبا.
وأديس أبابا من أقل المدن التي زرتها من حيث الازدحام المروري ، ولذلك لا تعانِ من تلوث الانبعاثات الكربونية. يلتزم السائقون التزاما صارم برط أحزمة الأمان أثناء قيادة السيارات ، والسائقين صبورين، وقلّما يستخدمون أبواق السيارات ، إلاّ عند الضرورة وبقدر الحاجة لها. لم تلتقط أذننا عبارة مثل "أبو العلّمك السواقة ، وإتعلمتها وين؟ ، المعاد سماعها في شوارع الخرطوم. ولم نشاهد قيادة بشوفينية أو تهور. الإشارات المرورية محدودة ومتمركزة في وسط العاصمة. تسيطر اليابان سيطرة شبه تامة على سوق السيارات. والناس يلتزمون بأدب الصفوف ، متى ما لزم ذلك ، ولا يتسامحون مع من يحاولون التخطي أو التجاوز ، سائقو التكاسي وسيارات الأجرة ، تنقصهم المهارات المهنية ، ولا يعرفون معالم المدينة بصورة كافية ، ولا يكمن الركون إلى معرفتهم، محدودي المهارة في استخدام خدمات ال GPS وهي الأخرى تعتذر عن التعرف على كافة المواقع ، وهي مسألة تقنية ، تعود للجهاد السيادية فيما نظن. يلاحظ بوضوح أنّ الصينين يحظون بمعاملة خاصة خلال مراجعتهم للدوائر الحكومية.
منذ الوهلة الأولى ، وقبل أن نلتقط أنفاسنا فور الهبوط على الهضبة العملاقة ، تم تحذيرنا من 9 طويلة ، والاحتراز أو تفادي التحدث بالهاتف النقّال أثناء السير ، وتجنب البقاء خارج السكن بعد المغيب ، وحمل النقود بقدر الحاجة لا أكثر ، والالتزام بتناول ماركة واحدة من المياه الصحية. لكن للأمانة ، طيلة فترة بقائنا في أديس أبابا لم نشهد ما يثير القلق أمنياً أو أخلاقياً.
الشعب الأثيوبي شعب مؤَدب بالفطرة ، وهادئ في طبعه ، لا يتدخل فيما لا يعنيه ، متسامحين فيما بينهم ، يحترمون الأجانب ، سيما السودانيين ، رغم اعتزازهم المبالغ بقوميتهم الأمهرية ، وانكفائهم الثقافي ، ومشكلتهم الأساسية ، تكمن حاجز اللغة ، التي تحّجم إمكانية تواصلهم مع الآخرين.
رغم نظافة الشوارع إلا أن ملابس الجنسين تبدو رثة ، والبضائع في المحال التجارية تبدو متماثلة ، والخضر والفاكهة محدودة التنوع ، ورغم عدم غرابة مظاهر التسول في بلد كالحبشة ، إلاّ أنها فوق التصور ، ومستشرية في كافة مناحي المدينة وليست لها أماكن مخصصة ، تجدهم ، يطلبون العون في استحياء ، في الشوارع العامة ، وفي أزقة الأحياء السكنية ، وفي المطاعم والمقاهي ، وبكثافة في أمام مداخل المساجد.
لسنا ممن يبهرهم الأبراج الخرسانية الشاهقة ، أو "تخلعهم" الواجهات الزجاجية الرقّاشة ، كمؤشرات للتنمية ، وإنما بالنسبة لنا ينبغي أن يكون الإنسان أو المواطن، هو محور التنمية ومقصد العمران ، إنسانيته ورفاهيته ، لذا لفت انتباهنا مظاهر البؤس ، ودلائل الفقر المرتسمة على هامات الناس في الشوارع ، قبل أن تجذبنا المظاهر العمرانية الراقية في وسط أديس أبابا.
المشهد العام، يوحي لك أن المواطن الأثيوبي مثقل بالهم المعيشي ، ينوء بغم تحديات الحياة ، ومظهر وأعداد الشباب المتسكع في الشوارع ، بلا عمل وبلا تعليم يثير الشفقة ، ناهيك عن من ينخرطون في أعمال هامشية لا تليق بنضارة شبابهم.
تشاهد بشكلٍ ملحوظ ، البنايات الشاهقة ، والمشروعات العامة، قيد التشييد، تتصدر مشهد المدنية ، ومعظمها متوفقة ، بسبب نفص أو توقف التمويل ، حسب إفادات مواطنين ، والذين أفادوا أن الغالبية العظمي ، أن لم تكن جميع الأبراج قيد التشييد عبارة عن فنادق أو مشروعات سكنية استثمارية. ما تثير الدهشة، أن تجد أبراج قيد التشييد يتجاوز العشرون طابقا ، محاطة بسقائل من الأخشاب؟ ولا تعرف مدينة أديس أبابا "الكرينات" الرافعة في المشروعات العمرانية إلا لماما. وليس مدهشا ، أن تجد وراء الأبراج الشاهقة، والواجهات الزجاجية "الرقّاشة" بقايا أعشاش من الصفيح وألواح الزنك ، في قلب المدينة.
* تدني وضعف في خدمات العملاء
من الغرائب ، أن دائرة شؤون الأجانب في الدولة الأثيوبية ، تعتبر تاريخ صدور تأشيرة الدخول الصادرة online هو التاريخ الفعلي لصلاحيتها ، وليس تاريخ دخول الزائر للأراضي الأثيوبية ، وهو أمر مخالف لما هو سائد عالمياً ، وهذا التصرف أصبح محل استهجان ويقابل بعدم رضا من الزوار الأجانب.
خدمات العملاء في مطار بولي ، وكافة الدوائر الحكومية ضعيفة (دائرة شئون الأجانب ومكاتب الخطوط الجوية الأثيوبية مثالا) ، ربما يعود ذلك إلى طبيعية الشخصية الحبشية، التي تميل إلى السكوت ولا تعرف الثرثرة ، والاعتزاز المبالغ فيه بالقومية الأمهرية ، بالإضافة إلى حاجز اللغة ، فهم يكتفون بكاتبة التوجيهات في دائرة شئون الأجانب باللغة الأمهرية فقط ، وفي المطار ، من الأفضل عن تسأل المسافرين من أن تسأل موظفي خدمات العملاء ، لصعوبة الحصول عليهم ، وضعف الإرشادات المكتوبة. هبطت طائرتنا الجامبو ، متزامناً من طائرة دريم لاينا أخرى ، الأمر الذي أضطر القادمون للاصطفاف أمام دورات المياه ، وهو أمر لا يليق بمطار دولي ، حتى لو كان في العالم الثالث.
وليس بعيداً عن هذا المطار الدولي الرحب ، والفاخر معمارياً ، لاحظنا ، مساحة شاسعة ، في حي قرجي وسط المدينة ، على بعد حوالي ميل أو يقل عن المطار ، مسيج بالزنك ، سألنا عن سر هذه الحيازة الواسعة ، علمنا أنها كان مخططا لتكون حديقة عامة ، إلاّ أن سلطات الملاحة الجوية لمطار بولي الدولي، منعوا تنفيذ هذا المشروع لحجة أن الحديقة العامة المحتملة ، ستكون موطناً للطيور ، التي تشكل خطورة على الطائرات ، لذا تم تحويله لمستشفى دولي للأورام الخبيثة ، منتظر حظه من التمويل. تجدر الإشارة إلى أن مطار بولي الدولي ، يقع على حافة مدينة أديس أبابا ، ملتصق تماماً بالأحياء السكنية ، مما يعني ، أن لا مستقبل له ، في موقعه الحالي.
* التضّخم المخيف
عملنا من خلال استطلاعنا، أن راتب المواطن الأثيوبي في الدرجة العمالية، في قطاعي الفنادق والمطاعم والشقق السكنية ، لا يتجاوز في أحسن الأحوال، الألفي بِر (حوالي عشرون دولار)، وهذا المبلغ لا يكفي لتناول ثلاث وجبات في مطعم فاخر. وهي غالية جداً بسبب تضمينها ضريبة المبيعات حوالي 5% ورسوم خدمات ، ومن اغرب التقاليد في أديس أبابا ، أن يدفع الزبون تكاليف وعاء الطعام في حال طلب ال take-away هذه التكاليف الإضافية ، تشارف نصف قيمة الوجبة.
وليس مستغرباً ، أن تدخل متجراً ، وتغادر مستاءً لحاجر اللغة الذي يعيق التواصل ، وإن أفحلت في العثور على ما تريد، قد يضطر صاحب المتجر ، لاستخدام الآلة الحاسبة ، ليس لتجميع قيمة المشتريات ، وإنما لتوضيح أرقام المبلغ المطلوب ، نتيجة استحالة التواصل الكتابي والشفاهي مع الكثرين من الأجانب إذ لديهم أرقامهم الخاصة بهم ، ويصرون على التعامل بها ، كما لهم تاريخهم الخاص.
* النازح السوداني عابر سبيل
بعد أن انحصرت خيارات المواطن السوداني البسيط ، في النزوح إلى أرض الحبشة، تدفق الآلاف منهم براً عبر معبر القلابات الحُمرة ، وجواً عبر مطار بورتسودان رغم المبالغة والجشع المبالغ في أسعار التذاكر ، ومعظم السودانيين القادمين إلى أديس أبابا ، عابري سبيل إلى الخليج ، والدول الأوربية ، وأمريكا وكندا ، وأصبحت أديس أبابا ملتقى مؤقتا للعائلات السودانية، ومتنزه للعرسان ، والكل يجد ما يناسبه من السكن ، ويتابعون إكمال إجراءاتهم بصبر وجلد ، تجد الشباب يلعبون الليدوا في المقاهي والشوارع الجانبية ، عبر أجهزة هواتفهم النقالة ، ويتبادلون الحديث عن سير المعارك في الداخل، ويتداولون فرص السلام ، يستنشقون عبق البن الحبشي المحّمص ، والذي يكاد يثمل المارة.، وتماشياً مع هذا التدفق ، أصبحت أعداد المطاعم السودانية، في تزايد رغم أنها محصورة في مناطق معنية. وتشكل تباعاً لذلك ، عدة منتديات ومنابر سوشل ميديا لتبادل هموم السكن والمعيشة في أثيوبيا للجنسين ، وهي مفيدة للغاية في هذا الشأن ، بالإضافة للتسوق وأخبار المناسبات الاجتماعية.
استجابة لإلتماس كريم من الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) ، خلال زيارته الأخيرة لأديس أبابا، وافقت حكومة د. أبي أحمد مشكورة على إعفاء السودانيين من رسوم تجديد تأشيرة الدخول ورسوم الإقامة لمدة ثلاثة أشهر ، نأمل إلغاء هذه الرسوم للسودانيين بصفة مستمرة ، إعتباراً للظروف التي تمر بها بلادهم ، والتي لها أيادي بيضاء على الشعبين الأثيوبي والإرتيري عبر التاريخ.
* الحكومة لا تكترث للفقر
ومما يعزز انطباعنا أن توجهات حكومة الدكتور أبي أحمد ، فقد أورد تقرير صحفي مؤخراً أنه "بعد مرور نحو 4 عقود على الكارثة التي أودت بحياة نحو مليون نسمة في إثيوبيا ، تلك المجاعة التي افقد الإمبراطور الأثيوبي ثقة الشعب ، عادت المخاوف مجددا بشأن تكرار فصول تلك المجاعة ، حيث يحذر المسؤولون في إقليم تيغراي ، من أن هذا السيناريو مرشح للرجوع بقوة في المنطقة الواقعة شمالي البلاد" . ناهيك عن تقارير دولية تتحدث عن موجهة الجفاف هذا العام، الذي يهدد 4 ملايين إثيوبي في إقليم أوروميا ، في ذات الوقت ، اعلنت أديس أبابا البدء في تصدير القمح ، وقال رئيس الوزراء آبي أحمد "لقد أثبتنا حقيقة أننا قادرون على تحقيق ما خططنا له في مبادرة البصمة الخضراء ، والآن أظهرنا للإثيوبيين والعالم أننا تمكنا من تصدير القمح ووقف الاستيراد".
حكومة د. أبي أحمد تصر على تعزيز البنى التحية ، بالقروض الدولية ، بكثافة في فترة زمنية ضاغطة ، الأمر الذي وضع إثيوبيا في خانة أحدث الدول الأفريقية المتخلفة عن سداد التزاماتها المالية، بعدما فشلت في سداد فوائد مستحقة قبل انتهاء فترة السماح. وهي تبدو غير آبه بمعاش الناس ، همومهم اليومية ، حسب تقارير موثوقة.
من النادر أن تجد د. أحمد يتحدث عن هموم الشعب الأثيوبي ، وغالباً ما تجده يبعث برسائله للعالم الخارجي ، ومن الملاحظ ، أن الدولة الأثيوبية ، كلما قويت اقتصادياً ، أستقوت على جيرانها ، فقد تجاهلت توسلات مصر والسودان بخصوص المخاوف المشروعية لسد النهضة ، ولديها مشاكل مؤجلة مع جارتها أرتيريا ، وأخيراً افتعلت مشكلة من جارتها جمهورية الصومال، باعترافها الضمني بمجهوريه أرض الصومال ، متجاهلة مواثيق الاتحاد الأفريقي التي تتخذ أديس أبابا مقرا دائمها لها ، بالإضافة إلى أننها مقر اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة ، بجانب أكثر من 130 سفارة أجنبية والعديد من المنظمات الإقليمية والعالمية ، لكن يبدو أن د. أبي أحمد لا يأبه لشيء البتة!
رغم الصعوبات ، ورغم الفوارق ، أثيوبيا ، بانتهاجها لاقتصاد السوق الحر ، والذي يسعى لإرضاء الرساميل الدولية ، متجاهلاً ، هموم المواطن ، يسير في طريق جنوب أفريقيا ، والهند والبرازيل ، كنماذج لجشع الأنظمة الرأسمالية ، التي لا تعرف الرحمة ، وتهتم بالمظاهر الأسمنتية والقشور التنموية ، وتدير وجهها للغلابا والبسطاء ، لمواجهة مصيرهم ، لكن لا نظن أن الشعب الأثيوبي الثائر بطبعه سيسكت طويلا على توجهات حزب الازدهار بقيادة د. أب أحمد.
* منتزه ملوكي للأجانب
ضمن مجهوداته المقدرة، أفتتح د. أبي أحمد في مارس 2020م المرحلة الثانية لمنتزه الوحدة، وهو منتزه سياحي ملحق بالقصر الرئاسي ، عبارة عن حديقة ملوكية وارفة وفخمة للغاية ومتكاملة ، تضم المتاحف والرئاسية والملكية ، وحديقة رائعة ومتنوعة للحيوانات البرية والمائية ، وقاعة احتفالات إمبراطورية ، وحدائق منسقة بصورة في منتهى الرقي والجمال ، مساحة هذه الحديقة الرئاسية والتي تمسي منتزه الوحدة Unity Park حوالي 400 ألف متر مربع (20 هكتار) على تل مرتفع يمّكنك من مشاهدة مفاتن المدينة.
زرنا هذه الحديقة ، وتفاجأنا بغلاء قيمة التذاكر الفردية ، التي تصل إلى 1000 بِر للأجانب (حوالي عشرة دولارات) ،و300 بِر للمواطنين ، اجتزنا الإجراءات الأمنية المشددة ، ومررنا عبر النفق ، وتخطينا المردعة الرابضة على مدخل المنتزه الملوكي الفخيم ، ورغم صعوبة تسلق منعرجاتها المفردهدة ، بغرائب الأزاهر وأطايب الورود ، أتضح لنا أنها تستحق رسوم الدخول ، وتبدو معقولة بالنسبة للأجانب ، إلاّ أنها كانت خاوية على عروشها ، على رحابتها وتنوعها من الزوار الوطنين ، اللّهم إلا بعض العرسان يوثقون لمناسباتهم الفرائحية عبر كمرات الفيديو ، لارتفاع قيمة التذكرة فيما يبدو بالنسبة لهم ، وجدنا بضع زوار أجانب ، مشتتين على اتساع المنتزة ، مع حراس صُم بُكم ، بسلبتهم المعهودة ، وحواجزهم اللغوية.
مرة أخرى يبدو هذه المشروع الكبير ، مصمم لنزهة الزوار الأجانب ، أو الطبقات الميسورة من الوطنين ، بما يعزز أن د. أبي أحمد يبدو غير آبه بالمواطن الأثيوبي البسيط . ومن المفارقات ، رغم الاحترازات الأمنية عند الدخول، وجدنا طريقنا إلى الخارج بعصوبة ، دون أن يأبه بنا أحد!
مفاجآت:
* الكولونيل المرعب منقسو لا يزال حيا يرزق
علمنا بفضولنا ، أن الكولونيل منقسمو هيلا ماريام ، الدكتاتور الذي قطع تسلسل توارث ملوك الدولة الأثيوبية الضارب في عمق التاريخ ، لصالح الايدلوجيا الشيوعية ، والطرح الاشتراكي المندفع ، والذي حكم في الفترة ما بين 1974 إلى 1987م صاحب "الإرهاب الأحمر الأثيوبي"، قد علمنا أنه لا يزال على قيد الحياة ، لاجئا سياسيا إلى زيمبابوي وقد فرّ إليها عام 1991م في نهاية تمرد طويل ضد حكومته، وأنه بقي هناك بعد حكم قضائي إثيوبي غيابي صدر ضده عام 2006م وجده مذنباً بتهمة القتل الجماعي. وتأكد لنا أن الحكم ضده لا يزال ساري المفعول ، وليس بإمكانه العودة إلى بلاده رغم أنه على مشارف التسعين من عمره.
* عيد الكريسماس ، ويوم عادي في أثيوبيا المسيحية
ومن المفاجآت ، أن الدولة الأثيوبية ، الأرثوذوكسية الديانة ، لا تحتفِ ولا تحتفل بمناسبة حلول عيد ميلاد المسيح (الكريسماس) في الخامس العشرين من شهر ديسمبر ، ولا حتى يعتبر يوم هذه المناسبة يوم عطلة رسمية ، في الوقت الذي تحتفل بها معظم الدول الإسلامية. موقفهم هذا ، ذكرنا بموفق أنصار السنة المحمدية من الاحتفال بأعياد المولد الشريف التي اعتمدتها اليونسكو مؤخراً، ضمن التراث الثقافي الإنساني كحالة نادرة.
* جدة البشرية لوسي
تفاجأنا أيضا بجدة البشرية لوسي ، وأدهشنا كيف أن المتعلمين من الأثيوبيين ، يعتزون بها، منذ 40 عاما ، اكتشف عدد من العلماء بقايا كائن حي بإثيوبيا ، وبعد الانتهاء من دراسة الحفريات عن قرب ، وجدوا أنها تنتمي إلى أقدم جده معروفة للإنسان في صورته الحالية: أطلقوا عليها لوسي. تم العثور على هيكلها العظمي عام 1974م في منطقة عفار بشمال شرق أثيوبيا في متاهة من الأودية الضيقة في إقليم منطقة عفر ، ويعبر هيكلها أقدم هيكل بشري تم العثور عليها حتى الآن.
* "الأنجيرا" ليست قمحا ولا ذرة
كنا نظن أن الكِسرة الحبشية ، والتي تشتهر بالأنجيرا ، والتي أصبحت تنافس الكَسرة السودانية ، سيما خارجياً ، كنا نظنها تصنع مع الفيتاريتا أو القمح ، إلاّ وتفاجأنا أنها تصنع من حبوب (التِيف) بكسر التاء ، وهو الغذاء الرئيسي للإثيوبيين ، في كافة الوجبات تقريبا. وأصبحت (الأنجيرا) تلقى رواجا عالميا في عدة دول ، وبات يمثل عنصرا رئيسيا للصادرات الإثيوبية إلى الخارج ، حسب تقارير أفريقية. كِسرة (الإنجيرا) جزء لا يتجزأ من الإرث الأثيوبي المحلي. وهو حبوب "التيف" من عائلة الذرة البيضاء المزروعة خصوصا في منطقة القرن الإفريقي وإثيوبيا وإريتريا المتجاورتين ، دون أي منطقة أخرى.
* الاضطرابات الأمنية مهددة للسياحة
هممنا بزيارة بحيرة تانا ، كمنبع أسطوري لنيلنا الأزرق الدفّاق، وتمتيع ناظرينا بالطبيعة الخلابة في مدينة بحردار عاصمة إقليم أمهرة، إلاّ أن التوترات الأمنية المتكررة في إقليم التغراي المجاور ، حال دون تحقيق هذا الحلم.
نعتقد الأوفق للدولة الأثيوبية ، ذات المائة وعشرين ألف نسمة ، أن تستثمر في التنمية البشرية، كأولوية ، في توازي مع تأسيس البني التحية ، لتلبية رأس المال الأجنبي المتدفق بسخاء ، على الدولة الاستثمار في التعليم التقني النوعي ، والتركيز على اللغات الحيّة ، عبر القروض الميسرة ، طويلة الأجل للشباب الأثيوبي الحائر في الطرقات ، القلق على مستقبله فيما يبدو من محياهم.
باءت كافة محاولاتنا لافتعال الثناء على حكومة د. أبي أحمد أن تجد التأكيد أو التأييد من تجاذبنا أطراف الحديث معهم من الأثيوبيين ، سيما سائقي سيارات الأجرة ، ومنهم من فاجأنا ، بأن ديمقراطية أثيوبيا ، مزيفة ، وأن أبي أحمد وضع كافة قادة الأحزاب المعاضة في جيبه ، وهو في طريقه لتأسيس دكتاتورية، محمية بصناديق الاختراع ، حينها ، خطر ببالنا سيناريو، انفجار الغضب الذي يبدو مكتوما في صدور الشباب الحبشي العاطل عن العمل ، والذي يبدو فاقدا لأي أمل، يلوح في أفق حكومة د. أبي أحمد المحمومة باقتصاديات السوق الحر ، رغم الحصار الغربي المفروض على بلاده.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.