فِي صبيحة يوم 15 أبريل 2023م ، بعد إندلاع الحرب مباشرة ، فِي العاصمة السودانية الخرطوم ، أصيبت جميع مؤسسات الدولة السودانية ، بحالة مِن الشلل التام ، والانهيار الكامل ، وكانت الولايات البعيدة الأخرى ، تعمل بصورة تلقائية فيجاتيتيفية. فقد لازم إندلاع الحرب فِي الخرطوم ، حدوث إنشقاقات رأسية وأفقية حادة ، فِي جسد المنظومة السيادية والأمنية فِي البلاد ، ولم تقتصر تِلك الإنشاقات على التباعد والتناحر بين الجيش والدعم السريع فقط ، بل تعدتهم إلى إنشقاقات داخل مجس السيادة ، وداخل هيئة أركان قيادة الجيش نفسها وداخل منظومة الاستخبارات العسكرية ، وجهاز المُخابرات العامة ، ووزارة الداخلية. أما بقية مؤسسات الدولة الأخري المدنية ، فقد دخلت لفترة طويلة ، فِي حالة مِن الصمت الغريب والحياد السلبي ، فِي إنتظار مُريب لمآلات الحرب والصراع ، ولمعرفة لمن ستؤول الأمور و الهيمنة فِي نهاية المطاف. كان رأس الدولة السودانية ، الفريق أول عبدالفتاح البرهان ، مُحاصر فِي البدروم ، فِي مكتبه فِي القيادة العامة ، لمُدة أربعة أشهر ، وكانت بقية الولايات السودانية بمثابة جسد مقطوع الرأس ، ومُصابة بحالة مِن الترقب الحَزِر والزهول الشديد ، وبفقدان التوازن. البرهان لم يُقيل حميدتي مِن منصبه، كنائب لرئيس مجلس السيادة ، إلا بعد أربعة أشهر ، على إندلاع الحرب السودانية ، وهذا الأمر العجيب يؤكد وقتها على غياب سُلطة الدولة الكامِلة وعلى إنعدام الرؤية المستقبلية لمؤسساتها المُتبقية. بعد سقوط الخرطوم فِي يد الدعم السريع ، شَكَّلت مدينة بورتسودان الساحلية البعيدة ، نقطة تجميع ومنصة إنطلاق جديدة ، وأتاحت فرصة ثمينة لإعادة تشكيل المؤسسات والسلطات الإتحادية المُختلفة ، للدولة السودانية . يُعتبر الفريق أول عبدالفتاح البرهان ، هو المؤسس الثاني بعد كتشنر ، للدولة السودانية ، وذلك بحكم الصدفة التأريخية ، ولكنه للأسف مُحاط بمجموعات مُتناثرة ومُتناحِرة ، مِن التشكيلات السياسية والإجتماعية الضعيفة ، ضيقة الأفق والتكوين ، وببقايا أبواق وفلول الإسلاميين العاجِزة، وبكرات لهب مُشتعِلة مِن الصياح والجنون الإعلامي ، وبحالة مِن الهيستريا ودخان اللايفاتية. يحتاج السيد البرهان الآن ، إلى إعادة هندسة المشهد السياسي فِي بورتسودان ، حتى يتمكن مُجدداً مِن خلق إدارة سياسية ومدنية قوية ، تكون قادِرة على إدارة الأزمة الشامِلة فِي البلاد ، وقادِرة على إجتراح حلول سياسية ، والتقريب بين الفئات المُتباينة ، ومُساعدته فِي إدارة الشأن العام. الطريق إلى ذلك المُربع السياسي والوطني الجديد ، يُمكِن أن يمر عبر مؤتمر قومي وشعبي ، للحوار الحقيقي السوداني السوداني ، ينعقد فِي مدينة بورتسودان ، وتُشارك فيه مجموعات المُقاومة الشعبية مِن كل الولايات ، وقطاعات المهنيين ، وفئات المرأة والشباب ، ومُمثلين مِن الدُّول المُختلفة لسودانيي الخارِج. يقوم هذا المؤتمر القومي والشعبي ، بعد الرجوع لدستور 2005 م ، بإختيار مجلس تشريعي إنتقالي ، وتعيين رئيس وزراء شاب ، وتشكيل حكومة تنفيذية إنتقالية رشيقة ، والتمهيد لقيام المؤتمر القومي الدستوري. لتقوم بعد ذلك ، الإدارة السياسية الجديدة فِي البلاد ، بالتصدي للمشاكِل الإقتصادية والخدمية المُختلفة للمواطنين ، وبإدارة ملف التفاوض السياسي للحرب ، حتى تتمكن قيادة الجيش ، مِن التفرغ للعمليات العسكرية ، ويبتعد السيد البرهان بعدها مِن الحرَّج السياسي المُباشِر ، ومِن إبتزازات ونعيق اللايفاتية. مِن حق الجيش السوداني الدفاع عن نفسه ، فِي مواقِعه وحامياتِه المُختلفة ، ومِن حقه أيضاً البحث عن سلاح وتمويل يُمكِنه مِن الصمود ، ولكنه غير مُطالب فِي الوقت الراهَن ، بتحرير جميع المناطِق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع ويجب عليه التحلي بالصبر وبالواقعية. المُواطن السوداني البسيط ، يحتاج الآن إلى مؤسسات قوية للدولة ، والدعم السريع عاجِز إلى الآن ، عن تقديم نموذج حي للدولة فِي مناطِق سيطرته ، ولذلك على السيد البرهان أن يقوم بمبادرة جريئة وسريعة ، تُمكِنه مِن الحِفاظ على ما تبقى مِن جسد الدولة السودانية. يظل التحدي الحقيقي ، فِي قُدرة هذه المجموعات السياسية المُحيطة بالبرهان ، على مُساعدته فِي إحداث هذا الإختراق السياسي الكبير والهام ، مع العلم أن أغلب هذه المجموعات والشخصيات السياسية ، هي مأزومة التكوين بالأساس ، وكانت مُحيطة بالبشير نفسه أيام الحِّوار الوطني ، وشكى وقتها البشير مِن تكالبها المحموم ، وتهافت أياديها الطويلة على كيكة السُلطة الصغيرة. كما أحاطت هذه الفسيفساء والقِوى السياسية المُتشظية بالبرهان بعد إنقلاب 25 أكتوبر 2021م ، وفشلت وقتها في مُساعدته فِي تشكيل حكومة إنتقالية ، ومِن ثَّم أفشلت الإنقلاب نفسه. لكن يظل الأمل معقود ، أن يحدث شيئ ما فِي بورتسودان ، يُساهِم ولو بقدر بسيط ، فِي تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين ، وفِي حلحلة المشاكِل السودانية المُزمِنة ، ويؤدي فِي النهاية إلى خلخلة المواقِف المُتحجرة ، ومِن ثَّم إلى إيقاف الحرب الأهلية. [email protected]