البروفيسور الطيب زين العابدين: والسؤال الذي يخطر على البال بادي الرأي: ما هو مغزى هذا الحديث الجريء الذي يصدر لأول مرة من قيادي متنفذ في الحزب والحكومة عاش كل فترة الإنقاذ بعسكريتها المخادعة الأولى، وشموليتها المغلظة عقب تأسيس المؤتمر الوطني حزباً وحيداً لكل أهل السودان، ثم فترة التوالي السياسي الرمادية بعد دستور 1998م، وفترة التعددية المنضبطة بعد اتفاقية نيفاشا في 2005م والتي وصلت بنا إلى انفصال الجنوب في التاسع من يوليو 2011م. ولا ندري ماذا سيكون وجه الجمهورية الثانية هل ستمضي بنا خطوة إلى الأمام أم خطوتين إلى الوراء؟ لست من المتفائلين بمستقبل الجمهورية الثانية وأظن أن النظام سيلجأ في ضوء التهديدات والمخاطر المحتملة إلى ما اعتاد عليه من قهر وعسف لمن تسول له نفسه مناجزة الحزب الحاكم ولو سلمياً! أحسب أن الدكتور عمر، وهو رجل شجاع صادق مع نفسه متمسك بقيمه التي نشأ عليها في حضن الحركة الإسلامية فقد عرفته عن قرب لسنوات عديدة داخل وخارج السودان، بدأت تتضح له صورة أوضاع السودان القاتمة بعد أكثر من عشرين سنة من احتكار الحركة الإسلامية للسلطة تمثلت في انفصال الجنوب ونشوب حرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق واحتمال حرب متجددة في دارفور وشرق السودان، اقتصاد مهدد بالانهيار، وعزلة خارجية خانقة وصلت إلى ملاحقة رئيس السلطة لدى محكمة الجنايات الدولية. وشهد أن الأحزاب الكبيرة التي كانوا يقولون عنها متكالبة على السلطة وتسعى إليها بكل الوسائل مستعينة بأعداء الوطن في الخارج تأبى المشاركة فيها رغم العرض الوزاري المغري الذي قدم لها. وتشكك عمر في أن قرارات الحزب ربما تطبخ خارج أجهزته القيادية، وأن مشروع الوفاق الوطني والمشاركة العريضة في السلطة الذي أجازته كل هيئات الحزب لم ينفذ بالصورة المثلى التي تجعله مقبولاً للآخرين لأن قلة قليلة متنفذة ترى ألا ضرورة لذلك ويمكن للأمور أن تسير كما كانت في السابق. أحسب أن عمر يريد البوح المسموع بأن حصيلة ما انتهينا إليه بعد هذه الفترة الطويلة من الحكم تحتاج إلى مراجعة جذرية شاملة تقوّم فيها التجربة الماضية بنقد ذاتي صادق وجريء حتى يتلمس الحزب طريق الإصلاح للمستقبل، وليس صحيحاً أن يقال إن كل شيء على مايرام. ولماذا يقول عمر مثل هذا الكلام الجريء في هذا الوقت؟ أظن أنه استشعر ثقل مسؤولية انفصال الجنوب التي يتحملها الحزب الحاكم بالدرجة الأولى، وأن ثورات الربيع العربي لا يمكن تجاهلها واعتبار السودان في مأمن منها، وأن مناسبة وضع دستور جديد للسودان تستدعي إعادة النظر في نظام الحكم، كما أن احتمال تقاعد الرئيس البشير اختيارياً بعد دورته الحالية تعني البحث عن مرشح جديد للحزب الحاكم ما يغير المعادلة القائمة. كل ذلك يدعو لتفكير جريء وخلاق في هذه المرحلة حول أوضاع الحكم في السودان وما انتهت إليه من حالة لا تسر. وماذا سيكون تأثير تساؤلات د. إبراهيم أحمد عمر على قيادة الحزب وقواعده؟ أظن أن معظم قيادات الحزب العليا سيضايقها مثل هذا الكلام غير المنضبط تنظيمياً وستلجأ للقطيعة والنميمة من وراء الظهر لتقول إن عمر لم يكن سياسياً في يوم من الأيام، وهو يعيش مثاليات لا مكان لها في واقع مستنقعات العمل السياسي في بلد متخلف، وأنه يعطي الأحزاب التقليدية الطائفية أهمية أكثر مما تستحق ولن تضعف عدم مشاركتها من قوة الحكومة. ولكن لن يجرؤ أحد من القيادات العليا للتصدي له لأنه سيرد عليه الصاع صاعين فهو جعلي قح لا يقعقع له بالسلاح ولا يقاطع له بالشنان، ثم إنه قريب من الرئيس يقدر له سابقته في نصرته على الترابي وإن اختلف معه في رؤيته الإصلاحية، وله قوة معنوية أخلاقية اكتسبها من عفته وطهارة يده يفتقدها الكثيرون من العصبة الحاكمة، ولكن قد يسلطون عليه بعض الإعلاميين من زعانف الحزب والمؤلفة قلوبهم التي تأتمر بأمرهم وتقبل عطاياهم لتنتقده في الصحف السيارة. أما قواعد الحزب (البريئة والشبابية) فستؤيد ما يقوله عمر لأنها مكتوية بما تسمعه في الشارع السياسي من نقد مر ولاذع لأداء الحزب خاصة في جبهة الفساد وغلاء الأسعار ومخصصات الدستوريين الكبار التي تبلع عشرات الملايين من الجنيهات القديمة شهرياً، واضطراب السياسات وتعدد المرجعيات وتناقض التصريحات. وقد يقول بعض الشباب إنه نسي أن يدعو لتغيير القيادات المعتقة التي بقيت في السلطة دهراً طويلاً حتى تكلست عظامها، ونعتها في الصحف بعض المتطلعين ب"الكنكشة" التي فقدت مؤهلات العطاء! وسيمضي كلام د. عمر دون تأثير يذكر على الحزب أو السلطة لأن القيادة المتنفذة باقية كما بقي عسيب، ليس لها الرغبة أو الإرادة أو القدرة على التغيير. ولماذا التغيير؟ فقد عاشت الإنقاذ بهذا المنهج السلطوي المنفرد في الحكم أكثر من عشرين سنة وتستطيع لو وقفت متكاتفة ومطيعة لقيادتها السرمدية أن تستمر به لعشرات قادمات! ويقولون إذا فتر عمر من الكفاح السياسي مع «العصبة المجاهدة» فعليه أن يتنحى جانباً مثل ما حدث لآخرين قبله ويظل أخاً كريماً له كل الاحترام اللائق به، ويا دار ما دخلك شر. (أكاديمي وكاتب سوداني)