منحت أغلبية التونسيين حركة النهضة الإسلامية ثقتها وأتاحت لها فرصة المشاركة في البناء السياسي لجمهورية تونس الثانية بعد 30 عاماً من الاقصاء والتهميش. ومثَّل ذلك الفوز نقطة تحول لجماعة كانت محظورة في السابق وأمضى مئات من أعضائها فترات طويلة في سجون الرئيس السابق زين العابدين بن علي، لكنه ملأ أوساط المثقفين التونسيين بالخشية من أن تكبل حركة النهضة حرياتهم أو تفرض قيوداً على مجالات إبداعاتهم. وتقول المطربة نوال غشام "في الحقيقة لست متفائلة من فوز النهضة وأخشى أن يصاب قطاع الثقافة بالشلل أكثر مما هو عليه الآن، والأكيد أن القطاع الفني سيكون من أكبر المتضررين والسياحة أيضاً، فأي سائح سيقصد بلد يحكمه الإسلاميون ويكون خاضعاً لتعاليمهم وأحكامهم؟". وفي مسعى منها لطمأنة للعلمانيين الذين يعتبرونها تهديداً للقيم الليبرالية للمنطقة في تونس والخارج، قال مسؤولو الحركة اثر إعلان النتائج الجزئية وثبوت فوزهم في انتخابات المجلس التأسيسي، إنهم سيتقاسمون السلطة ولن يحاولوا ان يفرضوا إجراءات متشددة. وقال عبد الحميد الجلاصي مدير الحملة الانتخابية في مقر الحركة إنه ستكون هناك استمرارية لأن النهضة جاءت الى السلطة من خلال الديمقراطية وليس الدبابات. لكن وعود الإسلاميين لم تبدد مخاوف الشاعر مجدي بن عيسى التي عبر عنها بالقول "يجب أن نكون صرحاء؛ فالمخاوف حقيقية وليست مجرد تهويل وتخويف يمارسه العلمانيون لأغراض انتخابية كما يقول مناضلو النهضة، وقد قلت ذلك لبعض الأصدقاء من أبناء الحركة". وأضاف "هناك خوف حقيقي على الحريات العامة، التي يستمد منها العمل الثقافي وعلى رأسه العمل الإبداعي مجاله الحيوي، من أجل التأسيس والتجاوز والنقد وطرح الممكنات الجديدة، في مقابل التصورات المحافظة ومحدودية الأفق للمشاريع الإسلامية التي نعرف، والتي تضيق في أغلبها من الإبداع الحر الذي يمكن أن يطال الثوابت أو ما يعد عند التيار الإسلامي كذلك، والتي ستتوسع قائمتها يوما بعد يوم فيضيق الخناق رويداً رويداً على المثقف والإبداع". وكانت تونس شهدت أيضاً في 26 يونيو/حزيران الماضي أعمال شغب وعنف بقاعة "أفريك ارت" بالعاصمة على خلفية عرض فيلم "لا ربي لا سيدي" للمخرجة التونسية نادية الفاني، ونسبت الى السلفيين، الذين برروا ما قاموا به بالدفاع عن الإسلام والمقدسات الدينية التي تعدى ذلك الفيلم الوثائقي عليها على حد قولهم. وانقسمت الآراء في المجتمع التونسي بين منددين بمن سمح بعرض فيلم لا يحترم الذات الإلهية والمقدسات الدينية بشكل عام ومعارضين لما اعتبروه قمعاً لحرية التعبير وتدخلاً في عملية الإبداعية. وجرت أيضاً في 14 أكتوبر/تشرين الأول مظاهرات احتجاج خرج فيها آلاف الأشخاص في أغلبهم من "السلفيين" إثر بث قناة "نسمة" التلفزيونية الخاصة فيلم "برسيبوليس" الفرنسي الإيراني. وأثار أحد مشاهد الفيلم الذي بثته نسمة الغضب، إثر تصويره الله على شكل رجل عجوز ملتح. ورغم تقدم رئيس مجلس ادارة "نسمة" نبيل القروي بالاعتذار إلى الشعب التونسي عن بث هذا المشهد، إلا أنه لم يتمكن من امتصاص غضب الناس، وخصص القسم الأكبر من خطب الجمعة في مساجد تونس لهذه القضية، وفتحت السلطات القضائية التونسية تحقيقاً قضائياً على خلفية بث هذا الشريط. وأشار الباحث التونسي الدكتور العربي بن ثائر إلى أن "السلفية ربما تعتقد أنها مهضومة الجانب منذ أمد بعيد، وأن الاستقطاب السياسي وهشاشة الوضع وضعف الحكومة الحالية ربما كل ذلك يشجعها على اقتناص الفرصة وتجييش العواطف لفرض تصوراتها العقدية وحتى السياسية في تنظيم الشأن العام وإدارته في المرحلة الحالية لصالحها بأقصى ما تستطيع من الفائدة في كسب الأنصار". وفي وقت يرى فيه المراقبون أن حزب "حركة النهضة" الإسلامي من أكثر المستفيدين من "أحداث بيرسبوليس"، سارع زعيم الحزب راشد الغنوشي إلى نفي علاقته بالاضطرابات، مشيراً إلى أن التونسيين لا يحتاجون إلى وصي للدفاع عن دينهم. من جهتها قالت الأكاديمية آمنة الوسلاتي الرميلي "من وجهة نظري وبصرف النظر عن النتائج، فيوم 23 أكتوبر كان يوما تاريخيا، عشنا فيه لحظات لم نعشها أبداً في تونس، في المكتب الذي كنت رئيسته لم تحدث أية تجاوزات، لكن السؤال الذي أودّ طرحه هل أن جميع المكاتب كانت هي أيضا على نفس الدرجة من الشفافية والنزاهة". وأضافت "في الحقيقة فاجأتني نتائج الانتخابات، هناك أحزاب يسارية لم أتصور أبدا أنها ستخسر، وفوز حركة النهضة بأغلبية المقاعد كان متوقعاً، لأن حركة النهضة عرفت كيف تقوم بحملتها الانتخابية على أحسن وجه" واستدركت "لكن ما أخشاه هو على مكاسب المرأة وعلى حرية التعبير فأرجو أن تحافظ حركة النهضة عليها، لأن من فاز بالانتخابات يجب أن يعلم انه لم يفز لنفسه وهو ليساً مكسباً شخصياً، بل لصالح الشعب التونسي الذي اختاره ليمثله وينتظر منه الكثير وخاصة النساء اللاتي صوتن بكثرة لصالح النهضة وللمبدعين والباحثين ليعبروا عن أفكارهم بكل حرية". وبين توجس بعض المبدعين وخوفهم على مصيرهم من "انغلاق" حركة النهضة وقيودها التي قد تضع حداً لإبداعاتهم، وتفرض عليهم رقابة تمنعهم من ممارسة حقوقهم، فإن البعض الآخر لا يريد أن يستبق الأحداث خاصة وأن حركة النهضة لم تبدأ الممارسة الفعلية لمهامها داخل المجلس التأسيسي. وفي هذا الشأن قال المسرحي أنور العياشي "عوض أن نخاف من النهضة دون مبرر، علينا ان نستمع لها وللذين اختارهم الشعب ونعطيهم فرصة، فإن وجد اختلاف فأبواب الحوار مفتوحة، علينا ألا نحكم على الناس مسبقا ماداموا لم يقدموا مشروعهم بعد". وتساءل "لماذا كل هذا التشاؤم منذ البداية؟". وختم حديثه قائلا "النهضة لا تعني بالضرورة السلفيين، فأعضاء النهضة أناس سمعتهم نظيفة ومتمرسون بالسياسة ولا يجب أن نلصق بهم التهم التي لا أساس لها من الصحة". كما قالت المطربة سنية مبارك "لا أرى مبرراً للخوف من النهضة لأن التونسي أصبح واعياً ويعرف ماذا يريد، وتركيبة المجلس التأسيسي لا بد أن تقوم على ثقافة الاعتدال والأخلاق واحترام حرية الإنسان، فإن توفرت هذه المبادئ فلا مبرر من الخوف من النهضة". ميدل ايست أونلاين