على الأقل، منذ أوسلو الاتفاقية المشؤومة التي رسخت سياسة إسرائيل فوق الجميع ومصر تنتهج سياسة كانت تسمى عن حق في زمن جمال عبد الناصر سياسة انعزالية. فمصر التي تدعم سياسات إسرائيل بالأخص منذ أن وقعت انتخابات فلسطين الديمقراطية التي أدت الى الانفصال الحالي المسمى الخصومة بين فتح وسلطتها اللا شرعية في الضفة الغربية وحماس وسلطتها المنتخبة الشرعية في غزة، تكرس من خلال سياساتها عزل مصر عن التيار العربي وعزل مصر عن المقاومة الفلسطينية الممثل الحقيقي الشرعي للجماهير الفلسطينية والعربية. وقد جرت تيارات انعزالية عديدة في كثير من انهار السياسات المصرية منذ ذلك الوقت. كان أخطرها تأثيراً محاولة المصالحة على طريقة إفناء احتمال المقاومة والإبقاء على سلطة الاستسلام لشروط إسرائيل كما تمليها بنفسها، أو كما تمليها الولاياتالمتحدة. ثم كان أخطرها إبعاداً لمصر عن التيار العربي الجماهيري ووقوف مصر الموقف الانعزالي من حرب إسرائيل الإجرامية على غزة، على غرار الموقف الانعزالي الذي تبنته مصر إبان حرب إسرائيل على لبنان في صيف عام 2006. وكان اخطر توجه لمصر الانعزالية عن التيار العربي هو ما تمثل في إقامة الجدار الفولاذي على الحدود بين مصر وغزة أي بين مصر وفلسطين رداً على إخفاق الحصار الإسرائيلي على غزة في خنق المليون ونصف المليون فلسطيني الذين يسكنون القطاع المحاصر. الآن ومصر تحاول أن تتظاهر باتخاذ إجراءات «عقابية» بحق إسرائيل من نوع تأجيل زيارة بنيامين نتنياهو للقاهرة لما لا يزيد عن 72 ساعة بسبب «تصرفاته الاستفزازية»، من نوع مهاجمة سفينة الإغاثة التركية لغزة المحاصرة، ومثل منع استقبال وزير خارجيته المتطرف الأجوف افيغدور ليبرمان في القاهرة رسمياً بسبب تصريحاته العدائية للحكومة المصرية... يبدو أنها تريد أن ترسل إشارة الى الولاياتالمتحدة بأنها لا تخرج بهذا على قواعد اللعبة الأميركية. فبعد أن اتضح أن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تؤيد بقلبها وعقلها انفصال جنوب السودان عن شماله، أي تقسيم هذا القطر العربي ذي الثراء الطبيعي الأسطوري الى دولتين، ها هي مصر تسارع الى اتخاذ إجراء يفهم منه انه تأييد للموقف الأميركي في هذه القضية. هذا أول إعلان انفصالي في التاريخ يصدر من القاهرة، ويزيد من الأسى لصدوره انه يأتي قبل أيام من ذكرى ثورة تموز 1952. وهو ليس مجرد إعلان. انه إجراء بل وإجراء مكلٍّف. كيف بررته مصر؟ لقد أعلنت مصر يوم 12 تموز الحالي عن «إنشاء وحدة خاصة لتقديم الخدمات والدعم الفني لجنوب السودان تتبع الصندوق المصري للتعاون الفني». وقد رفض مصدر مصري رسمي وصف هذا الإجراء بأنه اعتراف مسبق بانفصال الجنوب الذي سيجري الاستفتاء عليه في شهر كانون الثاني 2011. واستمراراً في التبرير الذي يعكس شعوراً عميقاً بعكس المعنى اللفظي للتصريح قال المتحدث الرسمي المصري «إننا لن نتخلى عن الشمال. هذا امر غير وارد. نعم هناك حساسية ما الآن، ولكن ذلك لا يعني إننا بصدد التخلي عن الشمال، خاصة ونحن نرى الجنوب يتجه لانفصال أصبح في حكم المقرر». وتصريح المسؤول المصري لا يفلح أبدا في تحقيق الغرض منه وهو نفي تأييد الانفصال في جنوب السودان قبل أكثر من خمسة أشهر من الموعد المقرر لاستفتائه... خاصة وقد جاء هذا التصريح متفقاً تماماً حتى في الصياغة مع تصريحات أميركية حفلت بها في الفترة الأخيرة، تصريحات المتحدثين الأميركيين باسم البيت الأبيض ووزارة الخارجية والوفد الأميركي في الأممالمتحدة. أن الموقف المصري «التاريخي» المؤيد لانفصال جنوب السودان يعبر عن سياسة لا تختلف كثيراً عن السياسة التي تنتهجها الحكومة المصرية منذ سنوات تجاه القضية الفلسطينية على الرغم من اختلاف القضيتين. وهو يشكل عبوراً من الانعزالية الى الانفصالية. وهو وهذا ما قد ينطوي على خطر أشد ينبئ باحتمال موافقة القاهرة مستقبلا على حركات انفصالية أخرى تبدو بوادرها من الآن مهددة لوحدة أقطار عربية أخرى، على النحو الذي تلوح الآن أخطاره في العراق وفي اليمن. ولعل الواجب الوطني يفرض أن لا نستبعد كثرة الحديث من الجانب الأميركي هذه الأيام عن «المشكلة الطائفية في مصر» وما يصاحبه من إشارات غامضة الى احتمالات انفصالية حتى في مصر البلد الذي ظل موحداً منذ أن وحده الملك الفرعوني مينا قبل أكثر من خمسة آلاف من السنين. وهذا اتجاه جديد في سياسات الولاياتالمتحدة يحظى باهتمام وتأييد أوروبي قد تكون له انعكاسات على أقطار عربية أخرى. وليس مفاجئاً بأي حال أن تأتي تصريحات المسؤول المصري على وفاق واتفاق مع صياغة تقرير جديد من قبل تحالف عالمي مكون من 24 منظمة إنسانية للحريات ولحقوق الإنسان، ويحمل هذا التقرير عنواناً له «تجديد العهد ... إعادة إشراك الجهات الضامنة لاتفاق السلام السوداني الشامل». ويحذر التقرير وفقاً لما نشرته صحيفة «الشروق» المصرية المستقلة من أن «الوقت يمر بسرعة نحو ما قد يكون اليوم الأكثر أهمية في تاريخ السودان الحديث. حيث يجري استفتاءان، ومن المرجح أن يؤدي ذلك الى تفكك اكبر دولة في أفريقيا». ويضيف التقرير نفسه، بلغة سياسية تبرر الانفصال وتفرضه وتعتبره نوعاً من الحتمية التاريخية، «نعم الجنوب (السوداني) غير مستعد ولا يمكن القول بغير ذلك ولكنه لا يرغب في البقاء مع الشمال. وهذا على الأرجح ما سيعبر عنه الاستفتاء القادم. ومن جانبنا سنتحرك لدعم القرار الذي يصدر عن الاستفتاء الذي يجري بموجب اتفاقية السلام التي أنهت عقدين من الحرب بين الشمال والجنوب». ويتحدث الاتحاد الأوروبي باللغة نفسها: «لا يمكن الا دعم حق الجنوب في الانفصال في ضوء المظالم الكبرى التي تعرض لها على يد نظام الرئيس عمر البشير». ويبدو أن مصر الرسمية تظن أنها تستطيع أن تعوض فشل سياساتها الأفريقية كما تمثلت أخيراً في مشكلة توزيع مياه النيل بين دول المنبع ودول المصب عن طريق التبكير بهذا الإجراء الانفصالي حتى قبل أن يتقرر الانفصال ويصبح حقيقة واقعة جديدة نتيجة للاستفتاء المقبل. وهذا بحد ذاته ينطوي على سذاجة سياسية أو سياسة ساذجة من جانب القاهرة الرسمية... فقد سبقتها الولاياتالمتحدة الى دعم الانفصال وسبقتها أيضاً دول الاتحاد الأوروبي، وكلاهما يتطلع الى ثروات الجنوب التي لا تزال في المرحلة الخام وتملك الولاياتالمتحدة وأوروبا وليس مصر الإمكانيات اللازمة لتطويرها والاستثمار فيها. ويبدو أيضا أن مصر الرسمية لم تحسب حساب الأخطار الانفصالية التي تهدد الوطن العربي بعيداً عن السودان. ولم تدرك أن انتهاجها سياسة انعزالية عربية لحساب علاقات أفضل مع إسرائيل ولحساب تأييد السياسات الأميركية في المنطقة وفي العالم، يفضي بها بصورة تبدو طبيعية، الى هذه السياسة الانفصالية التقسيمية. مع ذلك فإنها لاتبدو مدركة أن السياسات التي أخرجتها من التيار العربي الجماهيري وأفقدتها دورها القيادي إقليمياً وأفريقياً وفي العالم الثالث ككل، ليست سياسات تخص قضية فلسطين وحدها، إنما تتصل اتصالا مباشرا بالعلاقات مع البلدان العربية ككل، بل وكل بلدان العالم الثالث في القارات الثلاث. لقد سبق هذا الإجراء، الذي يعترف بانفصال الجنوب السوداني قبل أن تظهر نتيجة الاستفتاء عليه، السير في طريق ابتعد عن التنسيق مع سوريا وحتى عن التنسيق مع السعودية. وسبقه السير في الطريق المؤدي الى معاداة إيران واختيار علاقات أفضل مع تل أبيب وليس مع طهران. وهو الطريق نفسه الذي يسّر على بلدان عربية أخرى أن تقف في انتظار سلام مع إسرائيل بصرف النظر عن مصير فلسطين والفلسطينيين. هل نبالغ إذا قلنا بوجدان مصري يدين بالقومية العربية أن الخطوة المصرية باتجاه التسابق نحو قبول تقسيم السودان وانفصال الجنوب السوداني عن شماله هي اخطر تحرك من نوعه منذ نكسة الانفصال التي كسرت وحدة مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة؟ من يدري قد تكون لخطوة انفصال الجنوب السوداني عن شماله عواقب اخطر من تلك التي وقعت نتيجة للانفصال السوري عن مصر. صحيح أن وحدة مصر وسوريا لم تعد. فقد مات بطلها القومي جمال عبد الناصر ... ولكن سوريا عادت الى صف مصر، عندما كانت مصر لا تزال في التيار العربي الجماهيري الواسع. عادت سوريا لمصر أو عادت مصر الى سوريا في حرب تشرين الأول 1973. إما وقد خرجت مصر من التيار العربي الشامل وحدث كل ما حدث من انتكاسات لمكاسب حرب 1973، إما وقد سارت مصر في طريق جنيف ثم مدريد ثم وارسو وقبلت كل الإملاءات الأميركية الإسرائيلية فإن العالم كله اتخذ مساراً مغايراً. ولم يعد هناك منذ كامب ديفيد أمل في أن يستأنف التيار العربي هيمنته على تطورات المنطقة العربية والإقليم الأوسع المحيط بها، ما دامت مصر تنتقل من انعزالية الى انفصالية. بعد هذه الخطوة الانفصالية من جانب مصر فإن الموقف كله في المنطقة ينطوي على أخطار أكثر جسامة وفداحة مما فات. إن القضية الفلسطينية بهذه القفزة المصرية من الانعزالية الى الانفصالية تصاب بنكسة أليمة تضاف الى نكساتها الراهنة. لسبب بسيط ومعلوم وهو أن مصر ستجد نفسها، كما سيجدها العالم ، اضعف وأبعد مما كانت في أي وقت مضى عن استئناف دورها القيادي العربي والإقليمي. ستجد القضية الفلسطينية نفسها ابعد عن اهتمامات مصر عما كانت قبل هذه الخطوة الانفصالية. فإسرائيل جاهزة بعد هذا التقسيم للسودان الذي كان منذ بداية قيام إسرائيل أحد أحلامها الإقليمية لدور أفريقي أوسع وأعمق، دور يبعد مصر عن المنافسة فضلا عن المعارضة والتحدي، ويتركها تبحث لنفسها عن عزاء. الخطر الآن سيحدق بمصر من ناحيتين تتاخمان حدودها، ناحية فلسطين في الشرق وناحية السودان جنوباً. وتكمن المشكلة حقيقة في أن مصر الرسمية لا تشعر بعمق هذا الخطر عليها. سمير كرم