إحدى أكثر النساء شهرة وسلطة في القرن العشرين. قامت تلك المرأة التي لم يكن لديها أي تاريخ عائلي أو طبقي يذكر، بكسر حواجز الأعراف والتقاليد والطبقات في المجتمع البريطاني الذي يمثل أعرق الديمقراطيات بين الشعوب قاطبة. بالرغم من تعاقب الإناث الملكات على حكم تلك المملكة على مر العصور، لتلك الجزيرة التي حكمت العالم يوماً وكانت لا تغيب عنها الشمس، أتت مارغريت تاتشر التي تحمل لقب 'البارونة' الآن، إلى عالم السياسة الذَكَري لتُسمع صوتها عالياً، وقد فعلت وكان مدوِّياً. لتصبح المرأة الأكثر ذِكراً في التاريخ السياسي الحديث، وكل رجال السياسة والمال وغيرهم كانوا يتزاحمون للتحدث إليها، بعد ان كانت النساء يذهبن لشرب الشاي عندما يبدأ الرجال في الحديث عن السياسة. (في إحدى لقطات الفيلم في بداية حياتها، تضطر للذهاب والجلوس مع النساء لأن الرجال سيناقشون الأمور السياسية). يعتبر هذا الفيلم سيرةً ذاتيةً بامتياز، للمرأة الإنكليزية التي ما تزال على قيد الحياة، والتي تعتبر في كثير من الأحيان الأكثر شهرة والأكثر مثاراً للجدل. وكان قد أطلق على تاتشر لقب 'المرأة الحديدية' أثناء الحرب التي قامت بين الأرجنتين وبريطانيا حول جزيرة 'فوكلاند' عام 1982 التي انتهت لصالح بريطانيا وكان هذا أيام فترة حكمها. في هذا الفيلم، لم يكن هناك مجال للمخيّلة لتلعب أي دور في أحداثه. فالفيلم يتمحور حول شخصية مارغريت تاتشر(التي لعبت دورها الممثلة الأمريكية ميريل ستريب)، وتدور أحداثه حول ما جرى في حياتها منذ السنوات الأولى لتفتُّح وعيّها وحتى الوقت الراهن. يروي الفيلم بعض المحطات من تاريخها السياسي منذ أول ظهور لها في البرلمان إلى آخر أيام حياتها السياسية. نشاهد عدة مراحل في حياة البارونة من ضمنها الفترة التي استلمت فيها زعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء في بريطانيا. كما يرتكِّز الفيلم منذ البداية على اللحظة الراهنة في حياتها حيث انها تعاني من تدهور في صِحتها وتتعرض لنوبات من الهَلْوَسة وفقدان الذاكرة. الأمر الذي انتقده الكثيرين وبشدة ومن بينهم رئيس الوزراء البريطاني الحالي ديفيد كاميرون، الذي تساءَل عن الحكمة من عمل هذا الفيلم بينما البارونة ما تزال على قيد الحياة. وقد ردت عليه الفنانة ميريل ستريب حيث قالت ما معناه: إذا كان السيد كاميرون حريص على مشاعر تاتشر، فهل فكر في كيف ستشعر البارونة عند سماعها حديثه عن واجب الإنتظار حتى تموت لنصنع فيلماً عنها! واضافت: لو ان البارونة كانت مصابة بمرض في رئتيها، على سبيل المثال، وتكلمنا عنه في الفيلم لما كان هناك أي احتجاج كالذي رأيناه. ولكن لأن الأمر متعلِّق بالضعف العقلي الذي قد يصيب أي واحد منا وقد يفقدنا القدرة على التفكير المتوازن، وهذا هو أكثر ما يثير الرعب فينا جميعاً. (وطبعاً هذا الموضوع، له أهميته الخاصة في المجتمع الغربي أكثر من بقية المجتمعات في العالم نتيجة لخصوصية هذا المجتمع في العيش لسنوات أكثر من بقية الشعوب على الأرض، والذي يؤدي في حالات كثيرة إلى الإصابة بحالة شبيهة بحالة مارغريت تاتشر الآن). ولكنه، كاميرون، أثنى بنفس الوقت على الأداء الجميل والمثير للدهشة للممثلة ميريل ستريب كما قال. ومن الجدير بالذكر ان ستريب كانت قد فازت من قبل بجائزتي أوسكار عن دورها في فيلم كرامر ضد كرامر وفيلم اختيار صوفي، وكانت قد لَقيتْ، ستريب، ترحيباً كبيراً لدى وصولها لحضور العرض الأول للفيلم في مؤسسة السينما البريطانية 'بي اف آي'. كما أنه من المتوقع لها أن تُرَشَّح لجائزة الأوسكار عن دورها في هذا الفيلم أيضاً. نرى كل شيء في الفيلم، تقريباً، من خلال نظرتها المشوَّهة وذاكرتها الضعيفة حيث أنها تستعيد خلال 24 ساعة بعض من الأحداث الماضية التي حدثت في حياتها على مر السنين(ومن غير الواضح بالضبط كم عدد السنين التي تستعيدها). أولاً نراها فتاة جميلة في ريعان الشباب في متجر صغير مزدحم والفوضى في كل مكان، تعبيراً عن الحالة التي كانت عليها 'بريطانيا العظمى' في ذلك الوقت. ثم مُسنّة، ضعيفة ومرتجفة، نراها وهي ذاهبة لتشتري بعض الحليب إلى زوجها، دنيس، الذي فقدته بسبب الموت الذي غيَّبه منذ حوالي الثماني سنوات، ولكن شَبَحه ما زال يلاحقها ليل نهار. في ذلك المشهد تلاحظ، تاتشر، بعد أن تدفع ثمن الحليب بأن السعر كان أكثر مما يجب أن يكون عليه. (وأنا في الطريق خارج السينما في لندن كنت اسمع الناس يتكلمون عن ذكريات وأيام حكمها. ومن ضمن الأشياء التي سمعتها، كان عن إلغائها تقديم الحليب المجاني للأطفال في المدارس عام 1971 عندما كانت وزيرة للتعليم، الأمر الذي أغضب الكثيرين من عامة الشعب في ذلك الوقت وقد أطلقوا عليها لقب 'تاتشر خاطفة الحليب'). نرى مارغريت تاتشر ابنة الثمانين عاماً تزورها ابنتها كارول (التي لعبت دورها الممثلة الأمريكية أوليفيا كولمان) لتساعدها على التخلُص من أكوام ملابس الفقيد دينيس، زوجها ووالد كارول. في ذلك المشهد تبدأ البارونة باستعادة بعض من ذكريات حياتها، منذ بداية معرفتها بزوجها الذي كان من أكثر الأشخاص الذين أثَّروا في حياتها بالإضافة إلى والدها. كما ساهم بشكل رئيسي بتحويل دراستها من دراسة العلوم إلى دراسة القانون. تبدأ تفاصيل ذلك المشهد في محاولة إقناع نفسها بضرورة التخلص من ملابسه الكثيرة التي تملىء الخزائن والأدراج لأنها وببساطة لم تعد بحاجة إليهم بعد أن مات كما انهم ينشرون الفوضى في المكان. نشاهد البارونة وهي ما زالت مراهقة مليئة بالحيوية والنشاط، (التي لعبت دورها الممثلة الكساندرا روش)، ثم طالبة جامعية، عندما تلتلقي بزوجها المستقبلي رجل الأعمال الناجح آنذاك دينيس تاتشر، ودائماً مختلطة عليها الأمور والزمن، بين هذه الذكريات المستعادة وحقيقة اللحظة التي تحياها. بعد ذلك تنتقل المشاهد بشكل فجائي إلى 1970 حيث نشاهد تاتشر في قمة تألُّقِها السياسي كرئيسة لحزب المحافظين والسياسية العالمية المخضرمة. وفي هذه المشاهد على وجه الخصوص نلاحظ هذا الأداء الجميل والمذهل لميريل ستريب، وهي تُسافر جيئة وذهابا في رحلة عمر مارغريت تاتشر لتُجَسِّد شخصيتها بين الكهولة والشباب، فنراها أمامنا وكأنها حقيقة نعيش فيها ومن خلالها نستمتع بأن نعيش تلك اللحظات الماضية وأن نغيب عن الواقع ولو قليلاً معها. يتابع الفيلم سرد ما يشبه الحلقات، المتسلسلة حيناً والمتقطعة أحياناً، من حياة البارونة ويتعرض الى محطات سياسية وإنسانية في مسيرتها. دون أي تحليل أو حكم أو نتيجة. نرى في هذا الفيلم تناقضات الحياة وتقلباتها وسيرورتها: المراهقة الشابة المفعمة بالحيوية والشباب. المرأة الجميلة والقويّة صاحبة السلطة والنفوذ. وأخيراً العجوز الضعيفة التي لا تقوى على تدبير أبسط شؤونها الشخصية بعد أن كانت تتدبر وتتحكم بشؤون العالم بأسره. ربما هي أشياء تُحَسّ ويشعر بها المرء أكثر من إمكانية تحليلها وفهمها. ولمعرفة لماذا كان الفيلم مفاجأة فاقت كل التوقعات، الأكيد ان ادراك هذا غير ممكن إلا عند مشاهدته. أخرج الفيلم ولعب دور دينيس، الممثل والمخرج الإنكليزي جيمس برودبنت. كاتب من فلسطين