لست رجلا فذا على الإطلاق، وليست لدي أي مواهب أو مزايا تستحق الذكر أو الإشادة، حضوري وغيابي يتساويان في العادة ولا أظن أن أيا من الحالتين قد تحدث أي فرق في حياة الناس، ببساطة لست أكثر من رجل عادي، بل من الممكن تصنيفي كإنسان أقل من عادي إذا شئنا تحري الدقة. مجرد فرد يحمل رقما وطنيا، واحد من عامة الناس ممن لا يخلفون في النفس أي انطباع يذكر، هؤلاء يمكن مصادفتهم في المولات الضخمة التي اكتسحت العاصمة في السنوات الأخيرة، يتجولون بلا هدف سوى تزجية الوقت ومراقبة الآخرين، ترتسم في العادة على ملامحهم تعبيرات بلاهة قصوى، وغالبا ما ينسون أفواههم مفتوحة وهم يحدقون بعجز في واجهات المحلات الكبرى التي تجري تخفيضات هائلة في المواسم والأعياد. أنا واثق أن لحظة موتي، القادمة قريبا كما أتمنى، لن تعتبر كارثة قومية، بالمناسبة لم يعد الموت يخيفني كالسابق، صرت اعتبره مرضا مثل سائر الأمراض المعدية، ترسخ لدي الآن يقين أنه سوف يأتي يوم تتغلب فيه البشرية على مرض الموت وتقضي على أعراضه كاملة، لكن ذلك لن يحدث في المدى المنظور لأن الأمر يحتاج إلى مليارات السنين، سوف يتم حينها اتصال ضروري بين البشر وبين كائنات قبيحة الشكل مقيمة في كواكب بعيدة وهي ذات جينيات أكثر جودة وتفوق ذكاءنا بمراحل بكل تأكيد، قد ندخل في صراع مصيري معها سوف يحسم لصالحها من دون شك، وبعد أن تهدأ النفوس ويعم السلام سيوقع سكان الأرض يمثلهم الرئيس الصيني المنتخب اتفاقية السلام الكوني العادل والشامل، سوف تتضمن الاتفاقية بعض البنود المهمة مثل احترام حقوق الجوار ووقف الاستيطان التوسعي على كوكب القمر وضرورة تكاتف جهود العلماء والفلاسفة من كل الكواكب لحل لغز الوجود في نهاية الأمر والخروج بتعريف محدد له تتفق علية كافة الأطراف فتبدد الحيرة إلى الأبد. سوف تمر أزمان متلاحقة كثيرة قبل أن يتحقق ذلك، وحتى ذلك الوقت سنظل كما نحن في تعاطينا مع الموت، مصيرنا النهائي، والحتمي، والذي يجعل أي شيء سواه يبدو عديم القيمة، فنخرج من الحياة تماما مثلما دخلنا فيها ونحن نركل ونصرخ، لم أعد أتذكر إن كانت قريحتي المتقدة ابتدعت هذا الكلام التأملي الخطير أم أنني سمعته في سياق فيلم خيال علمي تكلف إنتاجه ملايين الدولارت وحقق أعلى نسبة أرباح وحصد الأوسكار عن أفضل إنتاج، ذلك ليس مهما، المهم أن موتي سيكون شأنا صغيرا لا يستحق الذكر ولن يؤثر في إيقاع الحياة التي سوف تواصل مسارها ضمن الروتين الكوني ذاته. حسنا.. الصورة ليست بائسة إلى ذلك الحد من المؤكد أن أفراد عائلتي سوف يبكون بحرقة وسترتبك برامجهم لعدة أيام، ثم ماذا؟ سيتأثر الجيران والمعارف وسيرددون: مسكين ما زال صغيرا. هذه الحقيقة الوحيدة التي سيحرصون على ذكرها، ذلك أن لا شيء يميزني على الإطلاق، علما أنني لست صغيرا تماما فقد اقتربت من الستين. على الأرجح أنهم سيجدون حرجا في تعديد مناقبي ومآثري لأنها ببساطة ليست باهرة، سيقولون من باب التضامن الإنساني أثناء مراسيم العزاء التي سوف يتخللها آيات من الذكر الحكيم عبارات مبهمة عامة لا تعني شيئا محددا وهم يصافحون أفراد أسرتي بانفعال وتأثر مبالغ فيه. فأنا لا أتمتع بأي موهبة تذكر، لم أحقق أي اختلاف عن بقية خلق الله متشابهي الملامح والمصائر. ولا أتمتع بما يصفونه بالكاريزما أو الجاذبية مثل السيد حسن نصر الله الذي يخفق بشكل ذريع بنطق حرف الراء ومع ذلك يتطلع إليه الجمهور كما لو كان نبيا جادت به السماء بعد قحط شديد. تترقب الكاميرات لحظة ظهوره بلهفة وتتسابق وكالات الأنباء لبث تصريحاته التي تثير الحمية في النفوس اليائسة المتلهفة إلى خلاص ما، حتى أن النساء يجدنه رجلا بالغ الوسامة رغم اكتناز جسده وقصر قامته إلا أنهن لا يخفين في مجالسهن الخاصة إعجابهن به كرجل فاتن. لن أحظى بشيء من هذا القبيل طوال حياتي، هذه حقيقة مؤكدة، لذلك اشعر بغيرة شديدة كلما اطل سماحته على شاشة الجزيرة بملامحه القريبة إلى القلب وحضوره الآسر الذي يدفعني إلى الإقرار بأنني إزاء رجل غير اعتيادي لا يحدث كثيرا في هذه الحياة. رجل يعرف ما يريد بالضبط. ويعبر عن نفسه بوضوح وحزم ويدرك تماما قوة تأثيره على الجماهير الواقعة تحت سحره. وسرعان ما ألوم نفسي على هذه الحماقة، اقصد مجرد عقد مقارنة بيني وبين سماحته، أنا النكرة الذي لا يلحظني ولا يحس بي أحد. فكرت بعقد مقارنة أقل تواضعا تعيد لي ثقتي بنفسي، أخذت ابحث عن رجل أقل ألقا من سماحة السيد لعلي أعثر على مشتركات تعزيني قليلا وتؤكد لي أن حالتي ليست ميؤوسا منها بالمطلق. ركزت اهتمامي على البقال بجوار البناية التي أقيم بها، رجل عادي بلا أي مهابة. نحن متقاربان في العمر وتربطني به علاقة مودة واحترام. يعجبني حرصه الدائم على ارتداء بدلة أنيقة لأنه كان طوال حياته وقبل أن يصل إلى مرحلة التقاعد موظفا في بنك عريق، استثمر مكافأة نهاية الخدمة التي حصل عليها لإنشاء محله الصغير الذي يلبي احتياجات أهل الحي. يبدأ دوامه في تمام الساعة التاسعة، ويحضر له مساعده قهوة الصباح بسكرها القليل، يشغل جهاز الكمبيوتر متصفحا الجرائد والمواقع الالكترونية، ملبيا طلبات الزبائن،مستقبلا الموزعين، مستمعا في الوقت ذاته إلى أغاني عبد الوهاب التي يطرب لها كثيرا، يمنح نفسه استراحة غداء، يقضيها برفقة عائلته، ويعود للمحل يقضي ساعتين ثم يغلق مع الغروب، قبل أن يستعد لزيارة بعض الأصدقاء بصحبة زوجته. أدركت انه يحيا حياة فائقة الترتيب، وانه في حالة انسجام مع ذاته بحيث لا يدخل في مهاترات وجودية من أي نوع وبالتأكيد هو غير معني بإجراء أي مقارنة مع آخرين. وهو لا يطرح أسئلة غبية على نفسه حول جدوى الحياة، رجل مضاد للضجر يحيا الحياة يوما بيوم ويبدو فائق السعادة. أحسست ببعض الحنق عليه في زيارتي الأخيرة ولم اعلق على كلامه بشأن حالة الطقس، تذكرت بطل ديستوفسكي الذي أقدم على قتل جارته بسبب من ابتسامتها الهادئة الوديعة، فهمت موقف ذلك البطل الروائي لأن رغبة مماثلة تملكتني. تخيلت نفسي أقدم على إطلاق رصاصة في قلبه تماما. ثم رق قلبي قليلا، وتخيلت نفسي أقوم بضربه ضربا مبرحا حتى تسيل دماء كثيرة من انفه ويتجمع الفضوليون محاولين إنقاذه من براثني، ثم اختصرت الشر وفكرت في صفعه صفعة مدوية تجعله يعيد النظر في نمط حياته الرتيب المثير للضجر. طبعا لم أقدم على أي من تلك التصرفات الرعناء رغم رغبتي الملحة. قال بمودة: خير جار تبدو متوعكا، قلت فعلا أنا متعب قليلا. نصحني بزيارة الطبيب لأنني أبدو شاحبا، أضاف في عمرنا يجب أن نعتني بأنفسنا أكثر. تضاعف حقدي عليه واحتقاري لتهافته على الحياة. قلت بصعوبة: قد افعل ذلك هذا المساء. ابتعت حاجيات طلبتها زوجتي نقدته الثمن وخرجت. فتحت أزرار قميصي وقد أحسست بالاختناق ويبدو أني سقطت على الأرض مغشيا علي عند باب دكانه اثر جلطة لم تكن قاتلة لأنني صحوت في المستشفى وجسدي مربوط بأجهزة كثيرة وقد انغرزت في وريدي إبرة تمدني بالجلوكوز، فهمت أني قضيت أسبوعا على ذلك الحال، عبر أفراد عائلتي عن فرحتهم بسلامتي وكانت زوجتي توزع الحلوى على زواري القلائل، وهي بالمناسبة امرأة ثقيلة الظل بطيئة الحركة وتميل إلى الغباء، وهذا ليس تحاملا بل هو انطباع يتشكل لدى كل من يلتقي بها، ظلت تلح علي بصوتها الذي اكرهه بشده على أن اترك التدخين الذي سيقضي علي، تمنيت في تلك اللحظة لوان الجلطة أخذت مجراها وأراحتني إلى الأبد من صوتها الكريه الذي يضرب على عصبي ويضاعف من إحساسي بالكآبة، كانت سعيدة جدا لنجاتي. في الواقع كانت سعيدة لأنها سوف تعتقلني لسنوات إضافية بانتظار جلطة ثانية تنشلني من هذا المصير الأسود، فرحت بالاكتراث الاستثنائي الذي حظيت به من أولادي، المنشغلين على الدوام بأمور اجهلها. حاولت تعديل جلستي كي استمتع بحضورهم حولي غير مكترثين لتعليمات إدارة المستشفى بعدم إطالة وقت الزيارة، وفيما أنا محاط بهم جميعا في غرفة ينتصب في سقفها تلفزيون كرروا على مسامعي حمدا لله على السلامة وقبلتني صغرى بناتي على جبيني، وسرعان ما شخصت أبصارهم نحو الشاشة التي كانت تبث خطبة مباشرة للسيد حسن نصر الله، عندها تذكرت أوجاعي كلها وغصت عميقا في فراشي متلفعا بضآلتي التي صارت أكثر وضوحا. *قاصة من الأردن القدس العربي