في نهاية سبعينيات القرن الذي مضى زحفت سيارة (بوكس) حول منزلنا بامتداد ناصر ببري تتحسَّس موقفها متوجسة، يترقَّب ركابها الطريق والناس.وقفنا على نواصي الطريق وصُحبة لي نتفرَّس في الأوجه لنتأكد، ألا وجهٌ غريب أو شخص مريب يتبع السيارة التي تقف، ويترجَّل منها شخص مهم وينسرب إلى دارنا لهُنيهات ثم يخرج منها. الراكب الخطير كان الأستاذ محمد إبراهيم نُقُد، والزيارة الخطيرة كانت لوالدي القيادي بالحزب الشيوعي عبد الرحيم عبد الوهاب (سي سي). الهدف كان تنفيذ مهمة للحزب الشيوعي لنقل والدي وترحيله إلى الاتحاد السوفيتي، حيث سافر إلى مصر ومنها استغل الطائرة الروسية إلى موسكو والتي مكث فيها أياماً وعاد منها معافى. هذا فضل عليَّ وعلى والدي، وعرفانٌ من الحزب الشيوعي لرجل قدَّم له الكثير، إذ أصيب في عينه جراء مرض السكري الذي أصيب به منذ صغره حيث كاد يتلف شرايينها. وكان العلاج بالليزر حينها عسيراً ولا يتوفر في العديد من البلدان. وكانت مهمتنا تأمين الزيارات السرية لعدد من مناضلي الحزب الشيوعي وهم في المهمة النبيلة لتأمين سفر والدي، وكنت ولا زلت من الحزب على النقيض. وبالطبع كان أبي يعلم ذلك ولكنه لم يستنكف أن يدلني على الزوار ولم أتردد في القيام بمهمة لم أُكلَّف بها وأعلم أن منفذوها لا يأمنونني على أنفسهم. في زواج شقيقتي الصغرى وبعد وفاة والدي كان أول من وجهتُ لهم الدعوة لحضور عقد القران بمسجد سيدة سنهوري الأستاذ الجليل محمد إبراهيم نُقد والأستاذ الجليل التجاني الطيب، وكان من الذين يحبهم ويقدرهم والدي، فحرصتُ على حضورهما ووعدا، ورغم ذلك حالت ظروفهما دون تشريفنا بمناسبة كان مرادنا ومبتغانا أن نحيي ذكرى والدنا بأن يعيشها معنا صحبه والذين يبادلونه المحبة وحُسن الصلة. كنت قد أعلنتُ لأهل والدتي أن وكيل الزوجة (شقيقتي) سيكون الأستاذ نُقد إذا حضر وإلا سيكون الأستاذ التجاني الطيب. ولو أن النساء يشهدن عقود الزواج، لجعلتُ الأستاذة الفاضلة وأمي التي لم تلدني القيادية بالحزب وشقيقة المرحوم فاروق عثمان حمد الله وأرملة الشاعر الكبير والشيوعي السابق محمد علي جبارة، الأستاذة الزلال عثمان وكيلاً للعروس. وقد أتحفتنا بحضورها البهي ومشاركتها القيِّمة، وكنت أُمنِّي النفس بحضور أمي الثالثة التي لم تلدني وجارتنا السابقة الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم لولا غيابها عن البلد. و قد شرَّفنا السيد رئيس الجمهورية بأن كان وكيلاً للزوجة في مناسبة شهدها كثير من الناس من الزلال إلى الحاجة هدية وقدامى الشيوعيين نمر ومن فارقوهم الأساتذة عبد الله عبيد وميرغني حسن علي. هذه رمية مطوَّلة على قول البوني ولكنها ضرورية لتُفسِّر مقدار حسرتي على النهج الذي يتعامل به الإخوة في الحزب الشيوعي مع مرض الأستاذ محمد إبراهيم نُقد، حيث يُلاحِظ قراء (الرائد) في الصورة التي صاحبت زيارة رئيس المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم الدكتور عبد الرحمن الخضر ونائبه الدكتور محمد مندور المهدي أنها لم تكن لحظة السلام عليه ومعاودته. وغاب نُقد عن الصورة . كما أن الإخوة (الرفاق) يأبوا على السودانيين إظهار مشاعر التضامن مع الأستاذ الجليل في مرضه ويأبوا مشاركة الدولة بالمساهمة في علاجه. دأب السودانيون وطبعهم الجميل المشاركة في كل شأن فرح أم ترح، وما يُسهم به الناس في المناسبات من أموال في(كشف العرس) أو المأتم، ليس معناه ولا الهدف منه أنهم يقلِّلون من قدرة أهل المناسبة على مقابلة التكاليف المالية، ولكنه ترابط أصيل ومشاركة قيِّمة. أحمد الله أن نُقد أدى فريضة الحج لهذا العام وأسأل الله له الصحة وأن يحُج عامنا القادم، وأحمد الله أن أبي مات وقبلها كان لسانه يلهج بذكر الأستاذ التجاني الطيب ويتمنى قلبه مشاهدته. و أحمد الله أن لحظاته الأخيرة تمت وبين يديه حجر التيمم ولسان رطب بالاستغفار. و لن يمنعني الحجْر على نُقد في مرضه الدعاء له كلما استطعت بالشفاء وطول العمر. هذا الرجل سكرتير الحزب و(رفيق كل السودان).