كان تبريرا مخجلا ومؤلما بحق ، ان يقول رئيس الجمهورية ان قرار تخليق ولايتين جديدتين فى دارفور تم ارتكازا على معايير قبيلية صرفة وبعيدا عن دواعى التقسيم الادارى واشتراطاته العلمية ، وهذا الاعتراف الخطير انما ينبئ عن مدى صعود القبلية فى هذا العهد المشؤوم ومبلغ التحاصص المناطقى الجهوى ليس فى شغل وتبوء المواقع السياسية وتسنم اجهزة الخدمة العامة بل يتعدى ذلك لدرجة اعادة رسم الجغرافية ، لخطب ود ورشوة قبيلتين ، ومن أسف فأن القرار فى هذه الدولة اصبح مرتهنا لمثل هكذا تقديرات ومنهجيات مختلة. بالنسبة لى ليس ثمة مفاجأة من هذا الاعتراف وقلنا من قبل ان الحكومة بمنطقها المعوج وحجتها السقيمة ، توغل فى مشروعها الرامى لفرض واقع جيوسياسى جديد فى دارفور بارادة منفردة ، وتجزئة الاقليم بما يقوض الثقة بين مكوناته الاجتماعية ويخلق حالة من التنازع والتنافس الاعمى بلاشك لن تكون فى صالح التعايش لكنها ستضمن للحكومة عدم اتحاد اهل دارفور على صعيد واحد اواتفاقهم على رؤى مشتركة ، وهذا يتسق مع سياسة الحكومة الخبيثة وحكمتها الأثيرة (فرق تسد) ، فقد قال الرئيس فى حوار العلاقات العامة التلفزيونى الاخير ان ولاية (وسط دارفور) خصصت لارضاء قبيلة الفور التى تتمركز فى ولاية غرب دارفور ولم يكن (لائقا) ان تكون حاضرتهم التى يتبعون لها هى مدينة المساليت التاريخية (الجنينة) ، هكذا يقول البشير ، ولاجل ذلك ابتدعت الحكومة ولاية عرقية (خالصة) للفور هى وسط دارفور وعاصمتها زالنجى ، وفات على البشير ان (الفوراوى) على دينار اقوى حكام دارفور لم يشأ ان تكون عاصمة دولته فى حيازات الفور التقليدية بجبل مرة فكانت الفاشر عاصمة لم يحتج عليها احد ، لكن ما احوجنا اليوم الى حكمة على دينار وبعد نظره وتساميه على القبلية قبل قرن من الزمان ، الى اى قاع تحدرنا ، الى ان سمعنا اليوم بولاية شرق دارفور للرزيقات وعاصمتها الضعين ، وجنوب دارفور للقبائل العربية الاخرى وغرب دارفور للمساليت ووسط دارفور للفور ، ولم يتبقى الا انتزاع كلمة (فور) الملحقة باسم الاقليم بعد ان صار كل جزء منه ملكا لقبيلة بعينها ويحق لها ان تطلق اسمها عليه بشكل حصرى. حاولت الحكومة كثيرا التسويق والدعاية لفكرة ان موضوع زيادة ولايتين منفصل تماما عن مطلب الاقليم الواحد ، صحيح ان لكل اجراء تفعيلات قانونية خاصة به ، لكن ماترمى اليه الحكومة هو حشد كتلة مضادة لوحدة الاقليم من خلال الاصطفاف المناطقى او التكتل القبلى الحاد والتقوقع الوجودانى عبر انشاء ولايات واعتبارها كسب للقبيلة ، وبفعل هذا التفكير الانعزالى تتداعى فكرة الاقليم الواحد فيما يشبه المقايضة ، وتضيق فرص التفكير الجماعى والانتماء الواسع لدارفور كجغرافيا ، وليس كاثنية ، فالموقف الحكومى المعروف هو ممانعة تامة وتكتل ضد مطلب الاقليم الواحد لدارفور وقطع الطريق عليه بالولايات الاثنية، وهذا بدوره يعكس نزعة تحكمية وتمسك بالقبضة المركزية على الاقاليم لادارتها آليا من على البعد ومقاومة تطبيق فيدرالية حقيقية تعطى صلاحيات وسلطات واسعة للاقاليم. ان تهتك النسيج الاجتماعى الذى نتج عن ممارسات نظام الانقاذ التى زرعت الفتنة والفرقة بين ابناء الاقليم ستتفاقم على نحو اكثر حدة بعد اقرار زيادة الولايات وقسمتها بين القبائل ، هكذا تريد حكومة الانقاذ مخاطبة ازمة دارفور بهذه المداخل النتنة ، لتمهد بذلك وتفسح المجال امام مطالبات قبلية مماثلة وصراعات بين القبائل مع بعضها بل وحتى داخل فروع القبيلة الواحدة ، ان الاولوية اليوم ملحة لتحقيق السلام اولا بوقف اطلاق النار ونزع سلاح المليشيات بما يمهد لعودة الفارين وفق معايير محددة بعد اخلاء مناطقهم من المستوطنين المستجلبين وتعويضهم بشكل منصف ، على ان تنفذ كل تلك التدابير عبر حكومة دارفور الموحدة التى يجب ان تعنى اولا بترميم الشروخ التى اصابت دارفور وحالة الاحتراب الاهلى وعدم الثقة بين القبائل ، حكومة حكيمة بصلاحيات واسعة توحد الناس وتعزز التساكن والاواصر القديمة وتدعم التلاقى وتضطلع بمسؤلياتها المستعجلة فى ازالة آثار الحرب ومحاكمة مقترفى الانتهاكات الجسيمة ومن ثم يمكن اجراء الاستفتاء حول الوضع الادارى لدارفور فى اوضاع طبيعية واجواء مغايرة ودراسة الحاجة لانشاء ولايات جديدة او تقليص الحالية وفق معايير ادارية تراعى حجم الموارد والمتطلبات السكانية لا الاعتبارات القبلية الصرفة على نحو مايحدث حاليا ، وكل هذا لن يتسنى تحقيقه فى ظل الحكومة الحالية. المنطق يقول الآن ان هناك ضرورة عملية لتقليص عدد الولايات فى كل السودان بعد ان اثبتت التجربة عدم جدوى هذا الكم الهائل من مستويات الحكم ومايتبعها من عدد مهول من التنفيذيين والدستوريين ، ويستحوز هؤلاء المتبطلين على قدر كبير من الموارد كمخصصات خصما على التنمية ، والمحصلة هى وجود اجهزة مترهلة وفاشلة ، ان فقدان موارد النفط يقتضى بالضرورة الاتجاه الى خفض الانفاق الحكومى البذخى والغاء كثير من الوظائف الدستورية الهلامية ، وقد اقر رئيس النظام نفسه من قبل بأن مرتب معتمد واحد يكفى لتعيين (30) طبيب ، فايهما اجدى نفعا للمجتمع ثلاثون طبيبا ام معتمد لايعتمد عليه ، لكن المؤسف ان حكومة المؤتمر الوطنى تمضى فى الاتجاه المعاكس ، فبدلا من ان تقلص ، توسع من المحليات والولايات ، انظر الى دارفور ستجد ان بها قرابة (70) محلية من أصل (140) محلية فى كل انحاء السودان ومعظمها محليات لامحل لها من الاحتياج ، لكنها انشات ابتغاء مرضاة واستمالة بعض القبائل لضمان الولاء او الانحياز ، ومن عجب ان الرئيس او الوالى يزور منطقة ما وفى غمرة خطاب حماسى يعلن عن انشاء المحلية او الولاية الفلانية ، على سبيل الرشوة السياسية بقرار منه هو دونما اية دراسة ، السؤال الآن لماذا تكثر الحكومة من الولايات فى دارفور دون سائر اقاليم السودان الاخرى ، لماذا لم تدرس مثلا اعادة ولاية غرب كردفان رغم المطالبات المحمومة باعادتها او ولاية الساحل التى تطالب بها مجموعات فى شرق السودان ، لماذا دارفور تحديدا ، اليس هذا هو الامعان فى (تقطيع) الاقليم والمثابرة لقطع الطريق امام اى فرصة لتوحيد اهل دارفور فى سياق سياسة فرق تسد ، والمدهش ان الحكومة حاولت ايجاد مسوغات اخلاقية ومبررات سياسية لزيادة الولايات بالارتكاز على توصيات ملتقى اهل السودان فى اكتوبر 2008 بكنانة ، وهو ملتقى حكومى غاب عنه المسلحون كطرف مهم بجانب تغييب المجتمع المدنى المعبر عن اهل دارفور والمتحرر من عباءة السلطة ولانرى انه يصلح مرجعية او اساس لترتيب اى اوضاع سياسية فى الاقليم ، وبالمناسبة فأن كل توصيات ملتقى اهل السودان لم تابه بها الحكومة مثل اعلان وقف اطلاق النار من طرف واحد ، او اطلاق سراح المعتقلين السياسيين من ابناء دارفور واخلاء الاراضى التى استولى عليها المستوطنون الجدد والتعويضات الفردية والجماعية عن اضرار الحرب وانشاء صندوق للديات براسمال مبدئى (100) مليون جنيه ، كل هذا لم يجد طريقه للنفاذ فلماذا تتعامل الحكومة بانتقائية مع النصوص ، وقد هزم اعتراف الرئيس البشير حول دواعى انشاء الولايتين كل مزاعم لجنة الضابط الادارى المتقاعد فؤاد عيد لدراسة زيادة الولايتين واثبت انها كانت (لجنة ديكورية لتزيين الباطل) فالولايتين الجديدتين الفقيرتين لاتستوفيان المعايير العلمية والادارية لمستوى الحكم باية حال. سهل آدم [email protected]