في أولى هجرات السودانيين من بقعة لأخرى كانت أسرة شبيكة متنقلة ما بين المنبت الأصلي (الرباطاب) والجزيرة المروية في فترة سيطر الإدارة التركية على مقاليد الأمور في البلاد، فعملت الأسرة أولاً في التجارة والزراعة والحرفتان تدلان على استقرار ممتهنا الشيء الذي جعله فيما بعد ينشأ في تمدن ظاهر عليه. ولد مكي شبيكة عالم علم التاريخ والوثائق في الكاملين التي استقر بها والده قبل هذا التاريخ بسنوات فنشأ مع والده الذي كان يمتهن الزراعة والتجارة، فألحق بالمدرسة الأولية بالكاملين، وحين إكماله للمرحلة الاولية تصادف أن توفي أكبر أشقائه (يوسف) ما سبب جرحاً لوالده وآثر ألا يلحق ابنه مكي بالمدرسة. فكان أن أبقى عليه بالمزرعة مع بقية الصبية يجمع بقايا الفول، وينظف متبقي المزرعة من أدلان حصادها حتى أصبح واحداً من ممتهني مهنة الزراعة. أراد الله للوطن أن يبعث فيه من يفجر طاقات الفتى ويهدي للبلاد عالماً من الأفذاذ. تصادف أن زار الشيخ بابكر بدري الكاملين وهو ممن تربطه بوالد مكي شبيكة علاقة رحم، فألح على والده بإرساله للمدرسة الوسطى. كان لموافقة والده على رأي الشيخ بابكر بدري سببا في عودة مكي شبيكة لمقاعد الدرس وفائدة علمية وأكاديمية لا يمكن إجمالها في هذا المقال، للكم الهائل من الدراسات التي قام بإعدادها فضلاً عن تتلمذ الكثيرين على يديه. التحق مكي بالقسم الأوسط بكلية غردون التذكارية التي كانت حينها قاصرة فقط على القسم الأولي والمتوسط، وتشاء الأقدار أن يكون عام الالتحاق به وتحديداً قسم المدرسين. تشاء المصادفات أن تأتي إليه طواعية وهو في السنة الرابعة إذ مرض بارود أفندي معلم التاريخ بالكلية، ويكون الأمر الواقع أمام إدارة الكلية البحث عن معلم يقوم بالمهمة في ظل عدم وجود بديل من الخارج في تلك الفترة فقد أوكلت لمكي مهمة المعلم لمادة التاريخ خلفاً لبارود أفندي، وذلك لسببين: الأول: كبر سنه. الثاني: حسن تحصيله مقارنة بزملائه. كانت النقلة التاريخية في حياته هي فترة عمله استاذا للتاريخ بالكلية وهي التي أتاحت له فرصة قراءة كتب التاريخ القديم وتجويد معرفته به. وذلك بمرتب سنوي قدره 96 جنيها. عين مكي معلما بالمدارس الوسطى فيما بعد تاريخ العام 1927م فطفق يتنقل في شتى بقاع السودان، بربر، الخرطوم وغيرها. لم يطل به المقام كثيرا في وظيفة المعلم فابتعث للجامعة الأمريكيةببيروت في الفترة من 1931م وحتى 1935م لينال فيها الشهادة الجامعية B.A برفقة نصر الحاج على اول مدير لجامعة الخرطوم. تنقل كثيرا بعد عودته من بيروت فعمل بالمدارس الوسطى ثم بكلية غردون كمتخصص التاريخ كما تقول الوظيفة. أتى العام 1943م وهو العام الذي اختير فيه معاونا لمستر إسكوت مدير الكلية كمعلم للوثائق العربية بالكلية فأثبت في هذه الوظيفة ميلا نحو دراسة الوثائق وهو الأمر الذي أوصله لمرحلة الابتعاث من قبل الكلية لنيل درجة جامعية في التاريخ لمدة عامين، فامتدت المنحة لسنوات خمس نال فيها درجة الدكتوراة كأول سوداني يحصل على هذه الدرجة العلمية. وكان أن كرمته كلية بدقورد كأول أفريقي وعربي ينال هذه الدرجة العلمية. وتشاء المصادفات أن تأتيه للمرة الثالثة وذلك حين عودته للبلاد أن كانت الكلية تستعد للتحول من كلية ثانوية لكلية جامعية وذلك في العام 1951م فعمل أولاً على تنقيح المناهج بما يتوافق مع التحول الأكاديمي المتوقع في غضون خمسة أشهر (نوفمبر 1951م) هذا مع عمله كاستاذ مشارك بقسم التاريخ. افتتحت الكلية الجامعية في نوفمبر 1951م وكان من ضمن أميز أساتذتها مكي شبيكة. وفي العام 1955م بلغ عن جدارة درجة البروفيسور مع عمله عميدا لكلية الآداب. في ديسمبر 1959م أحيل إلى المعاش ومن ثم ذهب للمناقل حيث يملك ارضا آلت إليه من ارث أبيه، وأصبح مزارعا في المشروع اضافة لتوكيل طلمبة بنزين وجاز في 24 القرشي. كانت عودته للريف عودة المحارب الذي أضناه الرهق في الميدان وهي بالفعل عودة العالم لحياة الراحة والسكينة بعد حياة امتدت من العام 1905م وحتى 1959م (عام التقاعد) وهي بالتحديد تسعة وأربعون عاما لم يذق فيها للراحة مذاقا. لم تتركه روح البحث والأكاديميات إذ سعت إليه هذه المرة فعين استاذا مشرفا على الدراسات العليا وعميدا للآداب. وحيث بحث جامعة الكويت عن بروفيسور في علم الشرقيات التاريخية لم تجد إلا مكي شبيكة في كل أرجاء الوطن العربي فكان خير من قام بالمهمة. لم يطب له المقام في الكويت إذ عاد في العام 1974م ليعمل استاذا مشاركا في درجة البروفيسور. حياة مثل حياة الراحل العالم كانت تستحق أن يحتفل بها الناس في كل عام ولكن.. لا الجهد الرسمي ولا الذاكرة الشعبية تحفل به. أخيرا.. تبقى من اسم مكي شبيكة مكتبته الفخمة التي مازالت تشير لمكانته وسط أساتذة وبروفيسرات التاريخ في كل العالم. توفى في 9 يناير 1980م. عبداللطيف أحمد