كان من رأيي أنه لو تركنا مطلب تقشف الدولة (تقليص الهيكل وتحجيم المناصب) مطلوقاً بغير إحصاء لما سيوفره لها سيتربص به أمين حسن عمر ويبهدل كيانه. لم يكن في ذهني أمين تحديداً ولكنه من أفضل من يفعل ذلك. وكان آخر من طالب بالتقشف هم أصحاب العمل في صورة تكوين وزارة من 15 وزيراً. ولم أسمع بعد من قال لنا كم سيكون عائد التقشف بالقروش والملاليم سوى عابراً من صدقي كبلو. فقال إن اقتراحه للتقشف سيوفر 76 مليوناً من الجنيهات. ولم يقل كيف سينعكس ذلك على الانفاق في الدولة؟ هل سيغنينا عن رفع دعم المحروقات مثلاً؟ وصف أمين حديث التقشف في لقاء له ب «السوداني بحديث مزايدات لا قيمة له وحجة فارغة لا قيمة علمية لها. وقال إن التخلص من 30 وزير لا أثر له في الانفاق. «ولا واحد من عشر آلاف». فالدستوري لا يأخذ سوى 10 ألف جنيه بدل تذاكر خارجية و4 آلاف جنيه بدل تذاكر داخلية. بل من الموظفين من يفضل الدستوريين حالاً. التقشف وهم وكلام غير مسؤول. ويبدو أن بيد كبلو أرقاماً أفضل عن مواهي الدستوريين ومخصصاتهم نضرب صفحاً عنها هنا. لكن أمين يضطرب نوعاً ما بعد ذلك. قال إذا أردتم النصيحة فتقليص هيكل الدولة الحكومي (لا طاقمها) هو الذي أولى أن يتبع. وحين سألته لينا يعقوب إن كان ذلك ممكناً قال: لا. فمتى فعلت ذلك شردت الناس وحلت البطالة. وشاهده على ذلك أن لجنة لتقليص الهيكل الحكومي التي هو عضو فيها قالت ذلك. صفوة قول أمين إننا لن نكسب شيئاً من تقليص الدولة في أي من المعاني المتداولة. والحل: رفع الدعم عن المحروقات. وهذا هي الحقيقة عارية. سترفع الحكومة الدعم بصورة علنية أو خفية كما قال. وعلى الشعب أن يختار. إذا لم يرض عن الرفع وعبر عن ذلك (بلا أجندة حزبية) سنوفر له انتخابات يأتي بها بحكومة يرتضيها. ولكن الحل في الرفع نزعل أم نرضى. وهو يزكي هنا أمانة الحكومة وصدقها. فقد كان بوسعها أن تخادع وتقول كل شيء على ما يرام ثم تأمر بنك السودان بطبع النقود ثم تقع الكارثة. وزاد: هل هذا الخداع صعب علينا؟ أبداً، وطبعاً لا، شفناهو شفناهو. وإذا خدعناكم وطبعنا قروش: ماهي المشكلة؟ ولا حاجة. واضح أن أمين مستميت عند منصبه ومرتبه ومخصصاته «وقَنَّعنا» من خير في هبشها. فإذا كان الخيار بين تقشف الدولة (مهما كان عائده) وبين رفع الدعم عن المحروقات فسيد الواحدة بستحملها. وهم الناس الأصاغر الذين سيطحنهم هذا الرفع طحناً في خاتمة المطاف. وهذا صراع تقليدي حول من سيحتمل نتائج الأزمة الاقتصادية: الناس الفوق أم الناس التحت؟ وقرت عيني كماركسي وأنا أرى أمين في حالة كلاسيكية من حالات غرائز «الحيوان الاقتصادي» الذي كرهه الإسلاميون في ماركس أيام طراوتهم العقائدية. وددت لو أن المعارضة في المجلس بزعامة الدكتور إسماعيل حسين طلبت بياناً وافياً عن خيارات تقليص الدولة وجدواها الاقتصادية حسماً للمسألة. والمعارضة فئة قليلة ولكن لهم أسوة في حسن الطاهر زروق، النائب الشيوعي الوحيد في 1954، غلب فئة كثيرة. وأرجو ألا تخشى في الحق لومة لائم. فبدا لي أن وزير المالية قد «طاعنهم» في المرة الأخيرة التي أثار النواب المسألة. قال لهم لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم. فمخصصات الوزير هي نفس مخصصات رئيس لجنة في المجلس الوطني. وتم قطع النواب الحركة. صدق أمين في واحدة. قال إن شعبنا «المهذب والمثقف والعزيز» يثور لا عن جوع بل عن كرامة. ولا أعتقد أن عباراته التي عرض بها مسألته راعت هذه الخصلة المركوزة فينا. ولا نخادع هنا الاحداث