بعد مرور عشرين شهراً على اندلاع "الثورات العربية"، لا يزال البعض يجادل ويحاول أن يحلل ويفسر ويفكر، ويتساءل إن كانت تلك ثورات أم انتفاضات أم مجموعات صغيرة تريد التغيير، ولا أفهم سبب هذا الجدال البيزنطي، فالأمور أبسط بكثير. وبغض النظر عن المسميات والتسميات والتصنيفات، فإن ما يحدث هو "رغبة في التغيير" من ناحية الجيل الجديد في تلك الدول، جيل يرى أن إمكانياته وأحلامه أكبر بكثير من أداء حكوماته وأبعد بكثير من رؤية المسؤولين فيها... لذا نرى أن حركة التغيير والمطالبة بالإصلاح تنتقل من بلد عربي لآخر بكل سهولة وسرعة. وفي المقابل تواجه هذه الحركة السهلة في الانتقال تحركاً صعباً وبطيئاً في التعامل معها! فأغلب الحكومات العربية تعتبر نفسها "مختلفة" عن الأخريات، لذا فهي لا تتحرك بالشكل والوقت الصحيحين، فها هو الرئيس الأسد بعد أكثر من عام على انتفاضة شعبه لا يزال يردد أن الوضع في سوريا لا يشبه الوضع في مصر ولا في ليبيا، ويقول إنه لا يخشى مصير مبارك ولا القذافي.لا يبدو أن أحداً يشك في أن مصير الأسد لن يشبه مصير أي ممن سبقوه، على الأقل لأن أحداً من قبله لم يقترف ما اقترفته يداه وآليات جيشه. ومن حق كل رئيس جمهورية لا يزال على كرسي الحكم أن يعتقد بما يشاء، لكن من الجيد أن يفكر فيما ما قد يواجهه، إذا لم يكن اعتقاده صحيحاً مائة بالمائة. أما السودان فالقصة فيه قد بدأت، ورئيس أكمل 23 عاماً في الحكم لا يزال مصراً على البقاء رغم أن البلاد فقدت جزءاً منها، واندلعت حروب ضد بعض أبناء شعبها، واقتصادها في ضعف مستمر لدرجة أن الحكومة اضطرت لفرض التقشف على مواطنيها. فبعد قرابة ربع قرن من الحكم، ماذا يريد رئيس جمهورية، وقد فشل ولم يحقق أي شيء لوطنه، ويصر على التمسك بكرسي الحكم وكأنه خلق له، ويرفض تركه لغيره رغم الإخفاقات المتتالية؟ من الطبيعي أن يكرر الإنسان نفسه مهما طال زمن بقائه في الحكم، فالبشير بدأ حياته في الحكم رافعاً شعار الإسلام والدولة الدينية التي استطاع من خلاله أن يسقط حكم من سبقه، فحمله الشعب في ذلك الوقت على الأكتاف، وحملوا أحلامهم وآمالهم على أكفهم ليحققها الرئيس الجديد، لكن شيئاً لم يتغير، والغريب أنه بعد ربع قرن يأتي البشير من جديد بعد أن اهتزت الأرض من تحت الأقدام ليعيد إنتاج وعوده القديمة، فبعد الاحتجاجات "المحدودة" التي شهدتها السودان خلال الأسابيع الماضية، خرج الرئيس السوداني بوعد جديد قديم مفاده "أنه سيقدم دستوراً جديداً للسودان سيكون إسلامياً بنسبة مئة في المئة ليكون مثالاً للدول المجاورة والتي شهدت بعضها فوز أحزاب دينية بالسلطة بعد انتفاضات شعبية". كما وعد بتشكيل لجنة تضم كل الأحزاب والطوائف الدينية والصوفية لإعداد دستور، دون أن يحدد موعداً للدستور الإسلامي الجديد. فهل هذا ما يريده الشعب السوداني فعلاً؟ وهل ما عجز عن تنفيذه خلال ربع قرن مضى سيتمكن من تنفيذه الآن؟ سواء أكان هذا ما يريده الشعب أو غير ذلك، فإن هذا ما استطاع تقديمه الرئيس البشير في مواجهة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد خلال الأسابيع الماضية والتي كانت تدعو إلى استقالته. لماذا لا يرى بعض الحكام العرب ما يدور من حولهم من تغيير؟ لماذا لا يستوعبون متغيرات المرحلة؟ لماذا لم يدركوا بعد أن شعوبهم تغيرت؟ لماذا يتجاهلون أن الغرب لن يقف معهم وإنما مع التغيير، ليس حباً بالتغيير وإنما تمسكاً بمصالحه، لأنه يدرك أن التغيير إذا بدأ فهو حتمي وأن الشعب عندما يريد شيئاً سيحققه؟ إن الغرب يميل دائماً إلى الوقوف مع إرادة الشعب. العالم يتغير وقواعد اللعبة تتغير وواضح أن أغلب الرؤساء العرب لا يدركون ذلك، وهذا ما يؤكد أنهم منفصلون عن شعوبهم ومنعزلون عن العالم وعن الواقع وأنهم لا يملكون رؤية للمستقبل، وليس لديهم خطط للتعامل مع المتغيرات التي قد تواجه دولهم، وكل واحد منهم يضع رجلاً على أخرى ويقول بكل ثقة: "الوضع عندي مختلف"! مختلف في ماذا ومن ماذا وعن ماذا؟ هل مختلف في المخرجات أم المدخلات أم في النتائج أم طريقة التعامل أم في نوعية الشعب؟! التغيير في المنطقة حقيقي، والمثال في ليبيا، فمن كان يتوقع في عام 2010 أن تجري انتخابات تشريعية ديمقراطية حرة في ليبيا عام 2012؟ لا أحد كان يخطر مثل ذلك بباله، بل كان سيناريو من ذلك النوع يصنف ضمن المستحيلات، فما الذي تغير وكيف حدث التغيير؟ كذلك الحال في مصر، فقد تحول "الإخوان المسلمون" من حزب محظور إلى حزب حاكم، فهل كان أحد يتوقع ذلك قبل أشهر قليلة؟ بل أصبح "الإخوان" يطمعون في السيطرة على جميع مؤسسات الدولة المصرية! إذا كان الشعب الليبي قادراً على ممارسة الديمقراطية ونجح فيها، وهو الذي عاش تحت حكم نظام مستبد لأربعة عقود، فلا شك أن أي شعب عربي سيستطيع ممارسة الديمقراطية بنجاح... لقد تجاوزت نسبة الاقتراع 60 بالمئة في أول انتخابات تشريعية في ليبيا منذ 42 عاماً، وعلى عكس ما جرى في تونس ومصر التي فازت بأول انتخابات فيها الجماعات الإسلامية، فإن التجربة الليبية قدمت صورةً معاكسةً تماماً، فوفق النتائج الأولية فإن الليبراليين تقدموا بشكل واضح في أغلب الدوائر الانتخابية. الجيد في التجارب الانتخابية التي شهدناها في تونس ومصر والمغرب، أن الناخب العربي في الدول الأخرى يتعلم من إيجابيات وسلبيات كل تجربة، وهذا أمر مفيد يجعل الدول التي تلحق بركب الديمقراطية مستقبلاً تستفيد من أخطاء الدول التي سبقتها، والناخبون الجدد كذلك يستفيدون من تجارب الناخبين الذين سبقوهم، ويستطيعون ضبط حماسهم الانتخابي في مصلحة مستقبل وطنهم وليس لمصلحة انطباعاتهم ومشاعرهم فقط. الاتحاد