ما لاقته «سميرة» الفتاة الأفريقية المسلمة ذات السابعة والعشرين عاماً من فقر وجوع ومرض وفوضي وعنصرية داخل موطنها في إثيوبيا هون عليها أية مصاعب قد تواجهها للفرار من الجحيم، كما وصفته إلي الجنة التي ظنت أنها ستجدها علي أعتاب إسرائيل، فيما لم تكترث «ديسنت» تلك السيدة الأفريقية التي لم تتعد بعد عامها العشرين من الرحيل من قريتها الصغيرة الواقعة علي الحدود مع إريتريا أن تحمل طفلها «فلامينجو» خلف ظهرها غير عابئة بمخاطر استغلال عصابات التهريب لها ولطفلها أملاً في الوصول لإسرائيل، حتي إنها تحملت الإهانة والذل وعانت من العطش لدرجة دفعتها لشرب بول طفلها الذي يخرج منه لتروي ظمأها في رحلة امتدت لأكثر من 30 يوماً بين صحراء السودان ومصر. من داخل أحد السجون بالإسماعيلية التقت «الوفد» ب «سميرة» و«ديسنت» و«هادية» وكثيرات غيرهن وخمسة من الأطفال نزحوا من بلادهم وسط أفريقيا هرباً من الفقر والفوضي متجهين إلي إسرائيل قاطعين آلاف الأميال وسط ظروف قاسية فرضتها عصابات التهريب علي المهاجرين الأفارقة بدأت من قبل إثيوبيا وانطلقت وقطعت الصحراء القاحلة في السودان ومنها تسللت إلي الأراضي المصرية بطريقة غير شرعية، كانت اللغة الإثيوبية هي العائق بيننا وبينهن للتواصل لكن سرعان ما زال العائق لوجود بعض المتحدثات باللغة العربية، والبعض بالإنجليزية. تقول ديسنت 20 عاماً: قررت الهجرة لخارج إثيوبيا للبحث عن فرصة عمل تمكنني من العيش وتوفير قوت يومي وتربية طفلي بعدما اختفي والده، حيث قمت ببيع أثاث غرفتي التي كنت أسكن فيها داخل إحدي القري القريبة من الحدود مع إريتريا في محاولة لتوفير تكاليف السفر إلي السودان عبر عصابات التهريب المنتشرة والمعروفة في بلادنا، وبعدما تمكنت من الوصول إلي أحد البدو المسئولين عن عملية التهريب طالبني بتسديد مبلغ علي أن أستكمل الباقي عقب وصولي وبدء العمل، وتم تحديد موعد للسفر وبدأت الرحلة من داخل إثيوبيا في ساعة متأخرة من الليل، حيث قام البدوي المرافق للرحلة بتكديسنا والعشرات من النساء والرجال داخل صندوق شاحنة تم تغطيته بالبلاستيك، وانطلقت الشاحنة وسط الصحراء، وما إن بدأ الفجر يبزغ حتي توقفت الشاحنة بالقرب من كوخ في منطقة غير آهلة بالسكان وتم انتظارها في هذا الكوخ حتي حلول المساء لنستأنف الرحلة من جديد ولكن مع رفاق آخرين. وتحتضن ديسنت طفلها وتبدو الدموع في عينيها وهي تقول: بلغ الحال بي من العطش في كثير من الأحيان انتظار موعد تبول طفلي حتي أروي ظمأي بما يخرجه، نعم مضت علينا أيام طويلة لم نتجرع فيها شربة ماء وكان البدو يسمحون للأطفال فقط بالشرب جرعات قليلة ولكنها متقطعة. حملت كل واحدة منهن حملها بين أضلعها وفرت هاربة من الجوع والفقر نحو إسرائيل - أرض الميعاد - التي روج لها الفكر الصهيوني داخل القارة السمراء لينسف الحلم بعدما تلقي أجهزة الأمن المصرية القبض عليهن وهن علي مقربة من الوصول للحدود وتتبدل الأحلام لكابوس بعدما يحاول البعض الفتك بهن. بدأت «سميرة» بالعربية حديثها قائلة: لم أنو الدخول لإسرائيل ولم تكن وجهتي إلي مصر، أنا خرجت من منزلي وتركت أطفالي مع أمي لأبحث عن فرصة عمل في السودان ووجدت نفسي مع كثير من الرفقاء هنا في مصر.. وتقول: بدأت الرحلة من إثيوبيا في اتجاه السودان واستمرت ثلاثة أسابيع واضطررت إلي أن أعطي للمهربين قرطي الذهبي الذي كنت أرتديه ثمناً لمصاريف الرحلة التي كان يقوم خلالها المهربون بتقييدنا في ساعات النهار داخل عشش تم إعدادها خصيصاً لنا، تفتقد كل الخدمات ولا يقدم لنا سوي وجبة واحدة من الطعام يومياً وكوب واحد من الماء. والتقطت «هادية» الفتاة اليافعة ذات الثمانية عشر ربيعاً أطراف الحديث، وقالت: انتقلنا من السودان ومنها إلي مصر وكنا في الطريق إلي إسرائيل ونحن لا ندرك أين الاتجاه، فمع كل عشرات الكيلو مترات من السير في طرق ترابية كانت تتبدل الرفقة وتتغير حرصاً من المهربين علي إجهاض أي محاولة للتعارف بيننا، بعدما استولوا علي جميع الأموال التي كانت بحوزتنا.. وأشارت إلي أن المهربين الذين تولوا تهريبها من البدو المنتشرين بشكل واسع داخل إثيوبيا لأنهم يجدون داخل البلاد عملاءهم من الراغبين في الرحيل لانتشار الفقر والبطالة والنزاعات المسلحة. وتنظر محكمة استئناف الإسماعيلية في واقعة ضبط واحتجاز نحو 450 مهاجراً أفريقياً بينهم نحو 100 سيدة و5 أطفال محتجزين بأقسام الشرطة بالإسماعيلية، تم ضبطهم أثناء محاولتهم التسلل إلي إسرائيل علي مدار الثلاثة أشهر الماضية. يقول محمد حنفي، عضو إحدي المنظمات الحقوقية بالإسماعيلية: هؤلاء المهاجرات وغيرهن الكثيرات فررن من بلادهن وتعرضن للمخاطر ظناً منهن أن إسرائيل أرض الميعاد، غير مدركات أن إسرائيل التي روجت لفكرة الهجرة إليها، تعاني حالياً من تفاقم أزمة المهاجرين داخل أراضيها وبدأت تتخذ إجراءات جدية في ترحيل البعض من المهاجرين وسن قانون يقضي بالسجن لنحو ثلاث سنوات دون توجيه تهمة إليهم. الظروف النفسية التي تعرضن لها في بلادهن ورحلة الموت والانتهاك لآدميتهن التي استمرت لأكثر من شهر علي يد عصابات التهريب صنعت من السجن لهن مأوي ومنقذاً من الموت، لقد تبدد الحلم الذي راود هؤلاء الفقيرات في تحسين أوضاعهن المالية، وتوقفت أحلامهن راغبات في العودة لبلادهن غير عابئات بالفقر والجوع مرة أخري، فما لاقينه من انتهاك لآدميتهن أعاد ترتيب أوراقهن.