عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    الخطوة التالية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤية نقدية لتجربة حكم الاسلاميين في السودان ... فك الوثاق بين مشروع الإسلاميين وحكمهم
نشر في الراكوبة يوم 01 - 08 - 2012


رؤية نقدية لتجربة حكم الاسلاميين في السودان ....
فك الوثاق بين مشروع الإسلاميين وحكمهم
علي عبدالرحيم علي
مرت الذكرى الثالثة والعشرون لقيام ثورة الانقاذ الوطني قبل أيام دون ذكرٍ حسنٍ أو شكل احتفائي، بل مرت ودخان الإطارات المحروقة لا يزال عالقاً ورائحة الغاز المدمع لم تتلاش. مرت الذكرى هذه السنة والبلاد في منخفض اقتصادي وسياسي وأمني وهي ليست المرة الأولى ولا هي من قلة ولا هذه الزنقة في مسار التناقص. ليس سراً أن هذا الضيق مشهود في السودان منذ استقلاله مع استثناءات قليلة، فهو بهذا ليس حصراً على الإنقاذ ولا هو حصر على هذا البلد، ولكن شعوباً كثيرة تمكنت من عبور مضيق الحروب والأزمات الأقتصادية والتغابن السياسي إلى رحاب من الإستقرار النسبي، فبعضها قفز قفزات كبيرة وبعضها يمشي ببطء ولكن في تقدم مستمر. ما الذي يمنع السودان وأهله من الخروج بدوره من دوامة الأزمات؟
عندما أتى الإسلاميون إلى الحكم في السودان كانت آمالهم كبيرة في صنع نموذج من الحكم الرشيد يِخرج السودان وأهله من عناءاتهم المتلاحقة ويقدموا المثال لغيرهم من المسلمين كي يحذوا حذوهم وينهضوا من كبواتهم التي تطاولت أزمانها، ولكن مرت ثلاثة وعشرون عاماً في صعود وهبوط ومحصلة من النجاح القليل. كان الإسلاميون يفاخرون لسنوات حكمهم باتفاق السلام وقد انتكسنا مجدداً إلى الحرب – رغم فصل الجنوب – وكانوا يفاخرون بالنهضة الإقتصادية وقد انتكسنا مجدداً إلى ضيق العيش. ثم كانوا يفاخرون قبل هذا وذاك بعلو الأخلاق وعفة اليد وسلامة الضمائر في أمور الحكم ولكن حتى هذه الجوهرة الأخيرة – حسرتي! – قد شابتها كثير من الطبائع البشرية الوضيعة التي ظن الإسلاميون أنهم قد سموا فوقها قبل أن تحمل لهم سنوات الحكم مرآة الحقيقة! صحيح أن الحرب الضروس التي واجهها الإسلاميون لإجهاض تجربتهم في الحكم كان لها أثر كبير، ولكن ما كسبت أيديهم من خطايا في إدارة شؤون البلاد لا ينكره إلا مكابر وأبلغ مثال هو انشقاق الإسلاميون على أنفسهم في أمر الحكم بشكل أذهل العدو والصليح ولا أجد من يقول أن هذا كان بتدبير من الأعداء.
ربما يظن البعض أن حكم الإسلاميين في السودان لم يجد متسعاً كافياً – رغم سنواته المتطاولة – وأنه كان يناضل باستمرار في معركة بقاء طاحنة، لأن ذهاب حكمهم كان يعني – في ظنهم – فشل التجربة، وهذا في ظني مبدأ الخطأ.
سأحاول في هذا المقال أن أبين الخلل في منهج الصراع من أجل البقاء في الحكم والذي كان وراء كثير من التشويه الذي طال تجربة حكم الإسلاميين، كما سأتناول أسباب حتمية التغيير وشروطه في محاولة لرسم صورة عامة لشكل التغيير الممكن والمنشود.
الفناء في سبيل البقاء:
بشكل عام فإن الأخطاء التي يمكن أن تصاحب أي مشروع هي إما أخطاء في الفكرة أو أخطاء في التنفيذ. أما أخطاء التنفيذ فيمكن تجاوزها بتكرار الفرص بافتراض الكفاءة في المنفِّذ. وبالنظر إلى حكم الإسلاميين في السودان نجد أنهم قد نالوا قدراً من الفرص كاف جداً لإصلاح أخطاء التنفيذ، وكفاءتهم بالنظر إلى المستوى العام تضعهم بين النخبة بينما كفاءتهم بالنظر إلى قدر التحدي فمتفاوتة لدرجة يصعب معها التقييم. هذا ربما يفسر بعض الخلل المستمر في التنفيذ ولكن يبقى ما يشير بقوة إلى أن هنالك خطأ في الفكرة الأساسية، في فلسفة الحكم لدى الإسلاميين.
سيرى المتأمل أن هنالك تمييزاً ضرورياً بين بقاء المشروع الإسلامي وبقاء حكم الإسلاميين حيث أن الأخير ليس شرطاً لقيام الأول وهو تمييز غاب عن سلوك الإسلاميين في السودان. هذا الخطأ المنهجي ملاحظ أيضاً في التجربة الإيرانية، حيث ربط الإيرانيون مشروع الإسلام الشيعي بالحكم، فحكموا إيران بديموقراطية شائهة لأكثر من ثلاثة عقود ثم بدأوا في التمدد إلى حكومات لبنان والعراق. لكن الإيرانيين تنبهوا لأن الربط بين المشروع والحكم ليس بديهياً وأنه يحتاج إلى نظرية تشكل له قاعدة فكرية فأخرجوا فكرة ولاية الفقيه بعد أن طال انتظار الأمام الغائب.
هذا ‘التنظير' غاب عن التجربة السودانية إما غفلة أو إهمالاً، ولكن ليس خافياً أنهم وقعوا في نفس الخطأ الإيراني بالمزاوجة بين المشروع والحكم وهي مزاوجة تبدو في الحالة السودانية غريزية أكثر منها فلسفية كما عند الإيرانيين والأمر في ظني خطأ في كل الأحوال.
لا أقول إن العلاقة بين المشروع الإسلامي والحكم علاقة تعارض، بمعنى أن يتنازل الإسلاميون الحاكمون عن الحكم وإن صلح وأن لا يسعى الإسلاميون غيرهم إليه.إنما أقول إن الحكم ليس منتهى المشروع الإسلامي ولا هو شرط لاستمراره، ومن ثم فإن على الإسلاميين قبول التنافس على الحكم مع غيرهم بشكل دوري، فإن نالوه وزعوا بالسلطان مالم يزعوه – قبل الحكم – بالقرآن. فالحكم أداة من أدوات المشروع الإسلامي – زادت أهميته أو نقصت – ولا يعدو ذلك.
لبيان أكثر نضرب مثلاً بالقاعدة المنطقية التي تميز بين الشرط الضروري والشرط الكافي. الشرط الضروري هو الذي لا يقوم الأمر إلا به حتى لو توافرت أدوات أخرى (الوقود في العربة شرط ضروري لحركتها). أما الشرط الكافي فهو الذي يمكن أن يقوم الأمر به وحده ولكن في غيابه يمكن أن يقوم بغيره (قطع الرأس شرط كافٍ للموت). الحكم إذاً شرط كافٍ للمشروع الإسلامي ولكنه ليس ضرورياً، فإن غاب الحكم قام المشروع الإسلامي بما هو متاح من أدوات. ولكن هذه القاعدة أراها معكوسة في فهم الإسلاميين للأسف، فإن أنكروها في فهمهم ظهرت في السلوك.
قد يحتج البعض بأن الإنقاذ استفتت أهل السودان في الإنتخابات الأخيرة ما يشير إلى أنهم لايربطون مشروعهم بالحكم، ولكن هذه الحجة يردها أن ما بذل في سبيل الفوز بهذه الانتخابات قد يشير إلى عكس ذلك. صحيح أن الإقتراع في الصناديق كان نزيهاً – حسب علمي – ولكن الحيف كان في الإستفادة من أدوات السلطة والدولة والتي ترسخت في أيديهم بعد سنين طويلة من الحكم و ‘التمكين' في مقابل معارضة أضعفها ميلان أرض التنافس السياسي زمناً طويلاً، هذا بجانب ضعف ذاتي من كسب قياداتها الداعية إلى البر والناسية لنفسها. هذا الضعف في المعارضة الرشيدة والذي حرصت عليه الإنقاذ كان له أثر سالب على الإنقاذ نفسها إذ أفقدها الإحساس بالمراقبة وغيب عنها المحاسبة الحقيقية تاركاً ذلك لمراجعات داخلية في النظام. ولكن هذه لا شك يعيبها افتقارها لأدوات الجبر حيث ينظر إليها دائماً ك‘خيارات' يؤخذ منها ويرد وهو قرار كثيراً ما يعود للمستهدفين بالإصلاح فلا يعدو الأمر في النهاية أن يكون تمريناً في نقد الذات دون فعلٍ إصلاحي حقيقي.
إن السعي إلى استدامة الحكم يحمل في طياته بذور فشل هذا الحكم ما يعني أن هذا المسعى ذاتي الفشل (self -defeating). فالساعي إلى تمكين سيطرته على الحكم سيسعى بلا ريب إلى السيطرة على مفاصل الدولة الأساسية: السياسية والإقتصادية والأمنية على وجه الخصوص، ثم يتشعب من هذه سيطرة على الإعلام والثقافة وغيرها من عناصر الدولة والمجتمع، وهذا الحرص على الإستمرار يصيب مسار الحكم بتشوهات ستكون هي - في النهاية - سبب زواله. ولنتناول ببعض التحليل بيان ذلك.
أولاً: التشويه في الإقتصاد: شركات النظام
لا غنى لأي نظام حاكم وساعٍ لإستمرار حكمه عن المال، بل الكثير منه. في سبيل ذلك ينشيء النظام شركات خاصة به ثم يحرص على أن تدر هذه الشركات الأموال في مواعينه بلا انقطاع ما يعني إخلال حرية المنافسة في السوق باستخدام سلطة الحكم ، والحكومة في السودان هي أكبر المشترين من السوق الأمر الذي يخلق حلقة مغلقة يدور فيها المال داخل إطار النظام بين الحكومة ومؤسساتها المالية. ذهاب المنافسة النزيهة يعني خروج الكثير من أصحاب الأعمال الأكفاء من السوق وتضخم شركات النظام دون قاعدة كفائية ولا امتياز. هذه الشركات يديرها ‘منتظمون' باتفاق مع النظام على قسمة الأرباح كي يكون ذلك حافزاً على حسن الإدارة ولكن الحاجة إلى هذا الحافز تضيع عندما تضمن الحكومة النجاح للشركة ليضمن النظام تدفق المال. يثري هؤلاء المنتظمون ثراءاً سريعاً مقابل الإفقار الذي يصيب كثيراً من أهل السوق الأصيلين ليفرض عليهم الواقع الإختيار بين الدخول في النظام أو الخروج من السوق.
تزداد أعداد هذه الشركات لما فيها من مصلحة مركبة للنظام ولأفراده فتنشأ منافسة داخلية بينها لا تؤدي – كما يفترض بالمنافسة أن تؤدي – إلى تحسين في مستوى الإنتاج أو الخدمة إذ أن عامل الإختيار بين الشركات المتنافسة يكون عبر العلاقات الشخصية وارتباط الشركة المعينة والقائمون عليها بمراكز اتخاذ القرار.هذه المنافسة – ولما يترتب عليها من حركة لأموال ضخمة – تعزز بدورها الإنقسام الداخلي والتكتلات ومحاولات إقصاء الآخر، ويكثر الحسد والتنافر ويدخل الشيطان بين الاخوان مع دخول المال عليهم. النتيجة من كل ذلك تدهور في المستوى العام للسوق وتدهور في التماسك الداخلي للنظام وزيادة في السخط الشعبي عليه.
التجنيب:
احتياجات النظام للمال تتجاوز قدرة الشركات النظامية لذلك يلجأ النظام إلى إيرادات الدولة لتغطية احتياجات خاصة أو عامة خارج الإطار الرسمي وهو ما صار يعرف مؤخراً بظاهرة التجنيب. يلجأ النظام من خلال واجهاته الكثيرة إلى المؤسسات ذات الإيراد كديوان الزكاة أو الحج والعمرة (في حادثة شهيرة) أو غيرها لتمويل احتياجاته المتعددة. أو تقوم بعض مؤسسات الحكومة كبعض الوزارات الإيرادية بحبس المال عن المالية لاختلاف أولويات الصرف، فتنفق على نفسها في تحسين بيئة العمل وامتيازات موظفيها ما كان ينبغي أن ينفق في تنمية أو تحسين لأحوال البسطاء. الأمر في التجنيب كما كان في الشركات حيث لا يقوى عليه إلا أصحاب النفوذ معززاً بذلك التكتلات الداخلية بينما يظهر لجمهور الناس على أنه فساد محض حتى وإن لم يدخل المال جيب أحد.
الموازنات السياسية:
دأب النظام كذلك على صرف أموال طائلة لإحراز توازنات سياسية مظنونة ولا أحسبه نالها فالأموال التي صرفت على استئناس الحركات المسلحة ومنحهم جزء من السلطة، والأموال التي صرفت في تقسيم الأحزاب السياسية وتذريتها هي أموال طائلة والعائد منها غير مرضي. ومعروف أن بعض الأحزاب ‘العريقة' تعيش تماماً على عطايا الحكومة للمحافظة على مستوى معاش قادتها وتشارك ببعضها في الحكم وببعضها الآخر في المعارضة. لا أدري إن كان عقلاء من النظام حاولوا دراسة جدوى هذا الأسلوب بحساب الربح والخسارة السياسية والإقتصادية، ولكن ظني أن جل هذه الأموال كان أجدى نفعاً لو صرف على رضا المواطن الذي يكفيه العيش الكريم بدلاً عن رضا المعارض السياسي الذي لا يرضى بغير الحكم.
استئناس الشباب:
معلوم أن الشباب هم وقود الحراك السياسي والمجتمعي بشكل عام، ولتأمين جانب الشباب يقوم النظام بصرف الكثير من المال على نشاطات شبابية من خلال اتحادات الطلاب والشباب. ينحصر نشاط هذه المؤسسات الشبابية على عمل حشود ضخمة متكررة للقاء الشباب بالمسؤولين في الدولة تخلق شعوراً خاطئاً بالولاء المشترك بين هؤلاء وأولئك، كما تقوم أيضاً بأعمال صيفية أو موسمية وقوافل ومشاركات خارجية وكلها نشاطات لاطائل حقيقي وراءها رغم الصرف الكبير عليها (هناك استثناءات دون شك). كل ما في الأمر هو أن عضوية النظام من الشباب يجدون في هذه الأعمال معايش بينما يظن المسؤولون أن الجمهور الذي يشارك في مثل هذه النشاطات يصبح من العضوية أو على الأقل ذو ولاء، أما إن كان هنالك من فائدة مظنونة تعود على شباب البلد من خلال هذه النشاطات وهذه الأموال التي صرفت غير ما سبق فقد تجاوزتني. حتى مشاريع استقرار الشباب – على ما بالفكرة من خلل – أُهدرت أموالها بشهادة القائمين على الأمر.
كذلك يقوم النظام – الذي يعلم الخطر الكامن في بطالة الشباب المتراكمة – باستخدام ‘مسكنات' كالتمويل الأصغر حيث يعطي الشباب أموال قليلة تلهيهم لفترة من الوقت في مشاريع تافهة (petty projects) راجحة الفشل، ثم لا يلبث أن يعود هؤلاء الشباب – بعد فشل المشاريع المتوقع – للبطالة ولكن الأموال لا تعود. الدولة تخصص 12% من التمويل المصرفي – وهذه نسبة هائلة تتفوق على تمويل الصناعة! – لتمنح الشباب قروضاً لا تكفي لإنشاء أعمال حقيقية مستدامة وقابلة لامتصاص تقلبات السوق وللتمدد والإتساع، وظني أن مثل هذا الخطأ ليس إلا استئناساً للشباب ولا أعني بذلك إضمار المؤامرة أو سوء النية وإنما هو السلوك الغريزي للحكومة في استخدام الحلول السهلة قصيرة الأمد لمشاكل كبيرة حتى تضمن البقاء لسنوات قليلة، ثم بعد انقضائها تعود لحلول أخرى من نفس الشاكلة والنتيجة هي تشويه للإقتصاد لا ينقطع.
الصرف الإنتقائي على التنمية:
وهذا من أشكال التشويه الإقتصادي التي باتت مألوفة في الإنقاذ – وإن كان أخف ضرراً من غيره - فنجد الإهتمام بالصرف على التنمية ‘المشهودة' أكثر من التنمية في مجالات أخرى ربما تكون أهم. أعني بذلك الصرف على الجسور والطرق والمباني عوضاً عن تقديم أولويات مثل التعليم والصحة وبنيات الصناعة والزراعة. لا أقول أن الحكومة صرفت على الجسور والطرق أكثر مما صرفت على التعليم والصحة فهذه معلومة رقمية لا أملكها، ولكن أقول إن الحكومة – وبذات غريزة البقاء – تنحو أحياناً لبناء ‘صروح' تظل أمام الناس شاهدة على إنجازات الحكومة في حين أن أولويات الصرف ربما تكون في أشياء أعظم ضرورة ولكنها أقل ظهوراً.
الصرف الانتقائي على الأمن:
الصرف على الأمن بسخاء هو سلوك عام نجده حتى بين الدول الديموقراطية ولكن التشويه في الصرف الذي يحصل عندنا هو أن الأمن كثيراً ما يتوجه نحو المعارضة السياسية بدلاً عن مكافحة الجريمة أو التجسس أو غير ذلك من وظائف أجهزة الأمن المعلومة. المشكلة أن توجه الأمن نحو المعارضة السياسية أحياناً يولد حلقة مفرغة تمتص الكثير من موارد البلد. فالمعارضة السياسية إذا ما اشتد التضييق عليها تحولت إلى معارضة مسلحة، و مواجهتها من قبل الحكومة تستدعي صرفاً عسكرياً أكبر من السابق الأمني. ثم لا تلبث أن تعود بعد مفاوضات مضنية إلى البلد بعد أن تضمن نصيباً في الحكم والمال وهو مصرف لا يقل عن سابقَيه. ثم تهتز العلاقة بين المعارض والحكومة إذ يعلم أنها تهادنه حتى تنتزع سمَّه ثم ترميه والحكومة تعلم أنه – المعارض – يمتص من رحيقها بيد ويضرب جزعها بالفأس باليد الأخر، فلا يلبث أن يعود ثانية إلى المعارضة وتبدأ الحلقة من جديد. والنظام يصب المال في صراعه مع المعارضة بغريزة البقاء كأنما يصبه في البحر!
الحاجات المالية المتعاظمة للأمن تدفعه للدخول بدوره إلى السوق بشركاته الخاصة مما يحدث تشويهاً في حركة السوق هو امتداد لما ذكرناه سابقاً عن شركات النظام، غير أن سلطة الأمن أظهر وأقوى مما يجعل قدرته على فرض وجوده في السوق أكبر من قدرة غيره وهو ما يفسر زيادة النشاط الإقتصادي للأمن في السنوات الماضية كجزء من صراع النفوذ والتكتلات الداخلية للنظام التى سبق ذكرها.
ثانياً: التشويه في السياسة:
تحجيم المعارضة:
عطفاً على التشويه الإقتصادي المذكور سابقاً بمحاولة تحجيم المعارضة ففي الأمر تشويه سياسي أيضاً، حيث أن محاولة النظام لإشراك فسيفساء المعارضة السياسية في الحكم – وهو في الغالب استئناس لها وليس طمعاً في كفاءاتها – ينتج عنها تشويه للتناغم السياسي في الجهاز التنفيذي فيزداد ضعفاً إلى ضعفه. المشكلة هي أن الإضطراب والخلل في الأداء يُلام فيه الإسلاميون فقط. لا أحسب أحداً من الجمهور يحفل بمسمى ‘حكومة القاعدة العريضة' فالحكومة في نظره هي المؤتمر الوطني أو ‘الكيزان'، وبذلك تكون هذه المشاركة الشائهة قد أفسدت تناغم الحكومة بينما نالت المعارضة غنائمها ولم تؤاخذ على مساويها. لم كانت هذه المشاركة أساساً؟ حتى تكف هذه المعارضة أذاها عن النظام دون أن يترك لها النظام الحكم. ذات الأمر ينطبق على الموازنات القبلية فلا حاجة للتكرار.
السيطرة على الدولة:
يقوم النظام وفي سبيل تعزيز بقائه في الحكم بتغذية قطاعات الدولة بالموالين له، فيتولون المناصب في الخدمة المدنية والعسكرية دون نظر إلى كفاءاتهم وهي غالباً أقل من المهنيين غير السياسيين. هذا الأمر تحديداً به من الضرر ما قد يعجز الباحثون عن قياسه لضخامته. وهو لم يبدأ في الإنقاذ بل عرفه السودانيون بالشعار القبيح ‘التطهير واجب وطني' في أيام ثورة أكتوبر ثم الحكم المايوي، ولكنه استمر للأسف في حكم الإسلاميين لتأمين مفاصل الدولة من العصيان المدني أو العسكري فخرجت الكفاءات واستمرت الدولة دون عصيان ولكن بعد أن هبط أداؤها دركاً سحيقاً وبات ينخرها سوس الفساد والمحسوبية وضعف الكفاءة فانقلبت من مأمون إلى محذور ومن مصدر تثبيب للنظام إلى مصدر تهديد لبقائه.
تجنب القرارات المهمة لكونها مكروهة جماهيرياً:
وهذا أوضح ما يكون في الإجراءات الإقتصادية الأخيرة حيث كان من المفترض اتخاذها منذ فترة طويلة وذلك باعتراف أهل الحكومة أنفسهم، ولكن لأنها قرارات غير محبوبة أُجّلت في أوقات الرخاء حتى لم يعد من بد من اتخاذها في أوقات الشقاء فصارت تهديداً للنظام أكبر مما كان محذوراً من قبل. ذات الأمر أحسبه ينطبق على قرار فصل الجنوب – وهنا يكثر خصمائي! – فهذا الأمر كان لأصحاب البصائر محتوماً فلم يكن من لزام أن تبذل الحكومة كل ما بذلت في اتفاق السلام وما بعده من أجل وحدة لا هي مرجوة ولا هي – في الظرف السوداني الآني – مطلوبة.
الإعتماد على العضوية بدلاً عن الولاء الشعبي:
السلوك العجيب لهذا النظام هو أن يجعل من كل من اتفق معه عضواً فيه! بهذه الفلسفة يكون الهدف البعيد للحزب أن يكون كل أهل البلد أعضاء مسجلين في الحزب! الصحيح أن يعمل الحزب بأعضاء محدودين ومؤمنين بفكرته وقبل هذا وذاك راغبين في العمل السياسي. أما بقية الموالين فيكفي أن يمنحوا أصواتهم له في الإنتخابات وربما يتطوعوا للعمل مع الحزب في مواسم الانتخابات فقط. ما الفائدة في أن يكون الأعضاء المسجلين في المؤتمر الوطني 5 ملايين، أي سدس الشعب السوداني؟! وليعلم القارئ الكريم أن حزب المحافظين في بريطانيا مثلاً عضويته تقل عن 180 ألف من 60 مليون نسمة! هذا التضخم الهائل في العضوية يجعل من الحزب جسماً مترهلاً ثقيلاً قليل الفعالية كثير الصرف وفوق كل ذلك فالعضوية تعني أن يكون للشخص دور سياسي، ويجد الحزب أنه بحاجة لخلق خمسة ملايين وظيفة لأعضائه فقط وهو محال ولكنه يتدارك بعض هذا بمؤسسات هلامية ذات مناصب ومخصصات وغير ذات جدوى. والمؤسف أن هذا العدد المتضخم فيه نسبة كبيرة ‘انتموا' الى الحزب الحاكم باعتباره حاكماً ومن ثم فسينالهم نصيب من الملك، ولكن لو خرج المؤتمر الوطني من الحكم ونظر في ماعونه ما وجد غير سلافٍ من الناس.
العجيب في أمر المؤتمر الوطني هو أن عضويته لا تستدعي الولاء والولاء له لا يستدعي العضوية وهو يظن أن العضوية والولاء متلازمان له. إنها تلك الحاجة الغريزية مرة أخرى تعمل عملها حيث تزين لأهل النظام أن خير وسيلة لضمان ولاء أكبر عدد من الناس هي جعلهم أعضاء في الحزب ولو استدعى ذلك بعض المنح، وهو ما ينشيء لدى الحزب تلك الإحتياجات المالية الكبيرة ومن ثم تلك الظواهر المشوهة للإقتصاد كالتجنيب والشركات النظامية.
المشكلة الآن – وبناءاً على ما سبق – هي أن هذا الربط الخاطئ بين المشروع والحكم بات يهدد الإثنين معاً، تماماً كالجنين الميت في بطن أمه والذي إذا لم يُخرج من رحمها قتلها. لا بد إذا من التغيير ليس فقط للمحافظة على المشروع الاسلامي ولكن أيضاً لأن المسار الطبيعي للأمور يشير الى التغيير الحتمي (ليس بالضرورة هذه الإحتجاجات الأخيرة فهي لا ترقى الى مسمى الثورة)، وخير للنظام أن يكون هذا التغيير باختياره ورضاه بدلاً من أن ينتزع الناس الإسلاميين من الحكم سخطاً عليهم فتنتهي فترة حكمهم بسوء الخاتمة.
يمكن الآن أن نستعرض بعض الأسباب الإضافية لضرورة التغيير.
حتمية التغيير:
الوضع الحالي للنظام يشبه ما يسمى في علم الفيزياء ب ‘الحالة الحرجة critical state' وهي الحالة التي يكون فيها حدوث التغيير حتمياً تحت أقل إثارة. هذه النظرية استخدمها Philip Ball في كتابه Critical Mass و الذي تناول فيه موضوع ‘فيزياء المجتمع' الذي يقول إن المجتمعات الإنسانية تحكمها قوانين ثابتة كقوانين الفيزياء، وقد استخدم الكاتب مثالاً لوصف حالة السوق غير المستقرة سأستعيره هنا لوصف حالة النظام:
لو أننا سكبنا ذرات من الرمل على سطح مائدة ذرة تلو الأخرى حتى بدأ يتشكل جبل صغير من الرمل على سطح المائدة، سنصل إلى مرحلة ‘حرجة' حيث تتسبب إضافة ذرة رمل واحدة أخرى إلى الكومة في تحريك ذرات مجاورة انحداراً إلى أسفل الكومة. الوضع قبل هذه الحركة يسمى ب ‘الحالة الحرجة'، هذا كله بديهي ربما ولكن الذي يجدر الانتباه إليه هو أنه لا يوجد قانون فيزيائي الآن يمكنه أن يتنبأ ما إذا كان إضافة ذرة رمل إلى كوم رملى في حال حرج ستتسبب في حركة بضع ذرات ويظل الجبل الرملي قائماً، أو في انهيار كلي ينثر الرمل على المائدة ولا يبقى من الجبل الرملي شيء.
لا أجد وصفاً لوضع النظام الحالي أبلغ من هذا، فذرات الرمل تلقى عليه باستمرار محدثة تغيرات جزئية متفاوتة، ولا توجد وسيلة في العلم الإنساني كله يمكنها أن تتنبأ متى تأتي تلك الذرة التي يحدث معها الإنهيار الكلي. فهذا النظام قد يستمر – رغم كل شيء – سبعين عاماً كما فعلت الأنظمة الشمولية في الإتحاد السوفييتي والمكسيك، وقد ينهار غداً. والذي أراه خيراً للإسلاميين هو تدارك الأمر قبل الكارثة، ليس خوفاً من انتزاع الملك، فهذا بيد الله، وإنما لأن رسالة الإسلاميين هي في الأساس إقامة أمر الله بإتاحة الحرية والعدل وكل أسباب العيش الطيب للناس، فمتى ما أصبح الإستمساك بالحكم عائقاً أمام الرسالة الأصل أصبح التغيير لزاماً. وحتى لا نلقي الكلام على عواهنه، دعونا نستعرض بعض ما دعانا للقول أن النظام الآن في ‘الحالة الحرجة'.
أولاً: مجموع ما ذكرناه في السابق من التشويه الذي يسببه الإستمساك بالحكم في أوجه الإقتصاد والسياسة حيث صار النظام كالعالق في بركة من الرمال المتحركة، كلما تحرك للخروج منها زاد انغماسه فيها.
ثانياً: النزعة البشرية الطبيعية لملال كل ما يطول تكراره ولو كان جيداً. فالإنسان سيمل المرأة الحسناء والطعام اللذيذ والشرفة التي تطل على البحر ما دامت أشياء متكررة وسينشد التغيير حتى ولو كان استبدالاً للذي هو أدني بالذي هو خير. هذا أمر انتبهت إليه حتى الأنظمة الشمولية التي إن لم تغير الحزب فهي تغير الوجوه كالصينيين، أو تغير الحزب مع بقاء النظام كالإيرانيين. أما بقاء نفس النظام ونفس الحزب ونفس الوجوه لأكثر من عقدين من الزمان وفي ظل حال من الشدة المستمرة فهو ما يدعونا للقول أن البلاد في ‘حالة حرجة'.
ثالثاً: يجب الإقرار أن الأزمة الإقتصادية التي دخل فيها السودان مؤخراً ليست طارئة وإنما هي هيكلية. صحيح أن مشكلة التدهور في سعر الصرف والتضخم يمكن أن يكبح جماحهما في خلال سنوات قليلة لو التزمت الحكومة بالنهج الإصلاحي وأبعد الله عنها العوائق، ولكن نهضة إقتصادية تخرج السودان من سفح العناء هذا لن تحدث إلا ب‘صنعنة' الاقتصاد كما أشرت في مقال سابق وهذا أمر لا أجده الآن لا في سلوك الحكومة ولا في فكرها، ولا شك أن المواطن الذي لايفقه شيئاً في أمور الإقتصاد لن يعجزه أن يدرك أن نظاماً بقي في الحكم عقدين من الزمان دون أن يتمكن من تحسين معاشه إما أنه – أي النظام – معطوب، أو أنه هو – أي المواطن – من به عطب. وسيظن هذا المواطن أنه قد جرب في نفسه سبلاً شتى دون جدوى وحان الوقت ليغير النظام ويرى النتيجة، وهذا ما يعيدنا إلى القول بأننا في ‘الحالة الحرجة'.
رابعاً: ديموقراطية الصعود الإسلامي من حولنا في تركيا ومصر وتونس وربما ليبيا واليمن وسوريا بإذن الله، هذا الصعود الإسلامي المحمول على أكتاف الشعوب واختيارها يحرج التجربة السودانية ويجعل منها عنصراً شاذاً ومشوِّها لصورة الإسلام السياسي التي بدأت تظهر في العالم الآن. لقد ذكر المستشرق اليهودي الأشهر بيرنارد لويس في كتابه ‘أزمة الإسلام' أن الإسلاميين لا يؤمنون بتداول الحكم إلا عندما يقودهم إلى سدته وبعد ذلك يكفرون به، أي أنهم يعترفون بهذا التبادل ولكن في اتجاه واحد فقط "صوت واحد، لرجل واحد، مرّة واحدة" حسب تعبيره. وهو عندما كتب كتابه هذا عام 2003 لم يكن الاسلاميون يحكمون إلا إيران والسودان وقطاع غزة وحزب العدالة والتنمية في تركيا في فوزه الأول. وقد تمكن حزب العدالة والتنمية من حفظ ماء وجه الإسلاميين وتكذيب فرية لويس حين خاض الإنتخابات للمرة الثانية في 2007 وفاز بها.
هذا الواقع يجعل تغيير نظام الحكم في السودان إلى آخر أكثر حرية أمراً ليس في صالح السودان فحسب وإنما في صالح المشروع الإسلامي الذي من أجله جاء الإسلاميون إلى الحكم ابتداءاً.
سبيل التغيير:
إذا سلمنا – استناداً على كل ما سبق – أن التغيير صار ضرورة، يمكننا عندها الإلتفات إلى السؤال المنطقي التالي: كيف يتم التغيير؟ (سؤال ال‘كيف' أحسبه أهم من سؤال ال ‘من').
من نافلة القول أن نقول إن الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة ولا تأتي عفو الخاطر وهي من ما يستدعي دراسات وبحوث مطولة، ولكن يمكننا على الأقل أن نبيّن بعضاً من الصورة بوضع الشروط الأساسية للتغيير المنشود وذلك كما يلي:
أولاً، يجب أن يكون التغيير شاملاً حيث يتغير النظام نفسه وليس الأشخاص باعتبار أننا قررنا سلفاً أن المشكلة تكمن في النظام ورغبته الملحة في الإستمرار. هذا يعني أن يشمل التغيير الحكومة ومؤسسة الرئاسة. يمكن للإسلاميين أن يحتفظوا بالمؤتمر الوطني للمشاركة به في أي منافسة سياسية قادمة وهذا باعتبار أن الأمر مكفول قانوناً ولكن من الأنسب في رأيي أن يطوي الإسلاميون هذه المرحلة كلياً فيؤسسوا حزباً جديداً لتجنب المرارات التي ربما تكون مرتبطة باسم المؤتمر الوطني في أذهان الناس. ولكن يجب التأكيد على أن أي تغيير ‘طلائي' سيكون عبثاً مهما تعددت ألوانه أو اختلفت أشكاله. أقول هذا لأني أحسب أن مرحلة الإصلاح الداخلي قد فاتت، والإصلاح الداخلي هو أن يبقى النظام مع تغيير المنهج والسلوك القديم كله وعكس الأثر التراكمي له وهو أمر ممكن نظرياً ولكني أظن أنه عملياً صار محالاً.
ثانياً، يجب أن يكون الجيش السوداني هو العنصر الأساسي في هذا التغيير. معلوم أن الجيش كان العنصر الفاعل في التغيير في تونس ومصر وذلك بامتناعه في ‘اللحظة الحرجة' عن قتل الناس مما جعل التغيير في النظام حتمياً، وهذا شهدنا مثله في السودان في ثورة أبريل. ولكن هناك ضرورة إضافية لوجود الجيش في معادلة التغيير هنا وهي – ببساطة - أن السودان في حرب. والذين يقرؤون التاريخ يعلمون أن البلاد – أي بلاد – تقوم بثورة أو تغيير شامل لحكم شمولي استمر فترة طويلة تمر بفترة من الإضطرابات والاهتزاز كالعابر فوق وادٍ يسير على حبل قبل أن يصل الى الأرض الثابتة في الطرف الآخر.
لو أننا افترضنا أن ثورة قامت وغيرت النظام الحاكم دون أن يكون الجيش قائماً على الأمر (ولا أرى كيف يكون ذلك ولكنه فرض جدلي) بمعنى أن يكون الجيش خاضعاً للسلطة السياسية في الفترة الإنتقالية حيث المشهد السياسي غالباً ما سيكون مرتبكاً بصراعات القوى السياسية المختلفة ومنشغلاً بتحالفات واستقطاب جماهيري وفوضى إعلامية وجدالات قانونية، تماماً كحال المشي على الحبل الذي وصفناه سابقاً، إذا كان الجيش – والبلاد في حالة حرب – تحت رحمة هذا العبث السياسي – الحتمي بعد كل ثورة – فأول ما سيحدث هو احتلال مواقع النفط من قبل المتمردين المدعومين من الجنوب، أي تكرار سيناريو هجليج بشكل أسوأ. كما ستنشط الحركات المسلحة في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور نشاطاً مسعوراً باعتبار أن الوضع في الخرطوم فرصة نادرة لإحراز أكبر تقدم عسكري ميداني. لا بد إذاً أن يظل الجيش – كمؤسسة – في معزل عن معترك التغيير السياسي حتى إذا استقرت الأوضاع عاد إلى الرسن السياسي.
ثالثاً، يجب أن يجري التغيير خارج إطار الإنتخابات الدورية القادمة 2014 (حتى ولو جرى التغيير في ذلك التاريخ) باعتبار أن الإنتخابات الدورية ستجري تحت إشراف النظام. حتى لو قدمت الحكومة استقالتها فستبقى مؤسسة الرئاسة، ولو أعلنت الرئاسة أنها لن تترشح في الإنتخابات فسينظر الناس إلى الأمر باعتباره عملية نقل للسلطة داخل النظام. صحيح أن عملية التغيير من الممكن أن تتم بإشراف النظام نفسه – إذا عزم وصدق! – بحيث يوفر جواً معافاً قدر الإمكان لإدارة العملية الإنتخابية خصوصاً في مايتعلق بالمال، ويدفع بوجوه جديدة في كل المجالات ويسمح للمعارضة بالعمل السياسي الحر من فترة كافية وما إلى ذلك مما يتيح فرصاً متكافئة للمتنافسين، ولكن سيظل الإحساس العام أن هذه انتخابات يجريها النظام ليفوز بها، ومهما بلغت درجة نزاهة الإنتخاب فستظل شرعية الفائز – إذا كان المؤتمر الوطني – منقوصة. لذلك فإن تغيير النظام يجب أن يأتي قبل الإنتخابات وليس بعدها حرصاً على إزالة الغبش وتأكيداً للجد في التغيير.
هنالك فائدة أخرى لأن يسبق تغيير النظام اجراء الإنتخابات، وهي إخراج عناصر سياسية جديدة يحفزها المناخ الجديد على خوض الغمار السياسي. لاشك أن ضعف المعارضة الحالية – المعارضة أقصد بها النشاط السياسي وليس الأفراد – راجع إلى ضعف الحرية في العمل السياسي لسنوات طويلة. ما الذي يدفع شاباً ذكياً تخرج من الجامعة بأفضل الشهادات ويمتلك مواهب عديدة وتفتح أمامه كل الأبواب، ما الذي يدفعه لأن يختار العمل السياسي إذا كان يعلم أن فرص وصوله إلى الحكم ضئيلة جداً مهماً أبدع في الممارسة السياسية – ما لم يكن من الحزب الحاكم! – لقد زهد أصحاب الكفاءات العالية والأذكياء من الشباب في السياسة لأنها – في ظل النظام الواحد – بلا مستقبل، واتجهوا للمهن أو السوق أو الهجرة. لهذا السبب فنحن لا نرى في المعارضة الآن إلا شيوخاً احترفوا السياسة قبل هذا النظام وعجزوا أن يتخذوا عملاً غيرها، ثم بعض الموالين لأسباب طائفية أو عقدية، وما سوى ذلك فغثاء كغثاء السيل.
تغيير مناخ العمل السياسي لآخر أكثر حرية وشفافية وعدالة سيفتح الباب أمام شباب أكفاء ممتازين عن أقرانهم للدخول إلى عالم السياسة وتغيير مستقبل البلد إلى الأفضل إن شاء الله. لكل ذلك أقول أن تغيير النظام يجب أن لا يفسده التدريج وإن كان بغرض السلامة وحفظ الإستقرار أو منع الفوضى. يجب أن يكون التغيير بيّناً كفلق الصبح حتى يعلم الناس أن هذا عهد جديد وعلى الإسلاميين أن يعودوا لترتيب أوراقهم والنظر في تجربتهم الطويلة وأخذ العبر، ثم الإقبال مجدداً على المعترك السياسي بنفَس جديد لاستكمال مسيرة المشروع المتصلة.
والآن يمكننا أن نوجز شروط التغيير القادم في التالي:
أن يشرف الجيش على عملية التغيير ونقل السلطة حتى اجراء الإنتخابات وربما يحتاج إلى الإستمرار في الإمساك ببعض السلطات إذا استمرت الحرب.
أن يتغير النظام بكامله وليست الحكومة، بمعنى أن يتغير الجهاز التنفيذي ومؤسسة الرئاسة ثم يشرف الجيش على تغيير قيادات الأجهزة الأمنية ويمكن النظر في تغيير قيادات الجهاز القضائي والأجهزة الإعلامية إذا استدعى الأمر.
أن يتم التغيير في شكل ‘تسليم' للسلطة من النظام الحالي إلى الجيش بمعنى أن لا يأتي التغيير عبر ثورة أو إنقلاب عسكري ويكون ذلك باتفاق معلن فيه فترة انتقالية معلومة وآلية لنقل السلطة من النظام الحالي إلى الجيش ثم من الجيش إلى النظام الجديد. الغرض من هذا ‘التسليم' الطوعي هو تجنب الإنفلات الأمني والحرص على سلاسة الإنتقال.
أن يضبط التوقيت في كل مراحل نقل السلطة بمعيار فائق الدقة بحيث لا يتأخر نقل السلطة عن الآن فيسبق تغييرٌ آخر غير منضبط يُدخل البلاد في أزمة، ولا يتعجل فيلقي بالسلطة عن كاهله دون ترتيب مسار التسليم والبدائل فتحدث فوضى. كما يجب أن لا تطول الفترة الإنتقالية فيطمع الجيش في الإستمرار ولا أن تقصر فيعطى الحكم لسلطة مدنية غير مستعدة سرعان ما تقود البلاد إلى فشل ديموقراطي رابع.
إذا توفرت هذه الشروط الأربعة يمكن أن نقول بثقة أن السودان قد دخل عهداً جديداً، جمهورية ديموقراطية ثانية تخرجه من تبادلية الجيش و الديموقراطية الهشة التي تقاذفته كمباراة في التنس لأكثر من ستين سنة.
خاتمة:
يحسن بنا في ختام هذا المقال أن نضرب لمقصده مثلاً أخف من السابق الفيزيائي: المطلوب من الإسلاميين الآن هو أن يطلِّقوا السلطة طلاق بينونة صغرى فتكمل هي عدتها وتخرج إلى بيت أهلها ويتقدم إليها خطاب آخرون يكون لها الخيرة في قبول من شاءت منهم، بينما الإسلاميون يراجعون مسيرتهم معها ويقرروا ما إذا كان الخير في طلب الرجوع – والأمر إليها – فإن رغبوا فيها مجدداً وقبلت بهم أرجعوها بعقد جديد ومهر جديد وشهود، أو أن يمضوا من دونها في حياتهم. واسمحوا لي أخيراً أن أوضح بعض المسائل في هذا المقال حتى تفهم مقاصده على الوجه الصحيح:
هذا المقال معني في الأساس بنقد تجربة حكم الاسلاميين من منطلق ربط المشروع الإسلامي بالحكم والذي حاولت أن أبين أنه كان مصدر كثير من الأدواء التي صاحبت سنين حكمهم. وهذا الرباط بات الآن يخنق نجاح المشروع الإسلامي ونقضه – نقض الرباط – سيدفع بهواء نقي في رئة المشروع الإسلامي والإسلاميين ويعيد إليهما عافية افتقداها منذ أمد طويل.
كاتب هذه الورقة من داخل بيت الإسلاميين وصفِّهم، وما استخدام الضمير ‘هم' بدلاً عن ‘نا' في أنحاء المقال إلا جراء المحاولة الجاهدة للنظر من الخارج وتجنب جواذب الإنتماء التي قد تعيق النقد الحكيم.
الورقة لم تتناول كل مشاكل النظام حيث اقتصر التناول على مشكلة الحرص على استمرار الحكم، كما أنها لم تتناول محاسن النظام حيث أنها ليست معنية بتقييم التجربة وإنما باستعراض بعض عوارض ذهابها ووسائل التوبة والإصلاح.
بقي أن أقول أن العالم الإسلامي و العربي بات يشهد الآن تغيرات غير مسبوقة منذ سقوط الخلافة العثمانية وربما منذ انتهاء الخلافة الراشدة. وشعوب المسلمين ستجد نفسها في مفترق طرق حيث يتوجب عليها الاختيار بين المضي في الطريق القديم أو الخروج عنه إلى طريق جديد، إن لم يصعد بهم من السفح إلى القمم فهو لن يهبط بهم أدنى مما هم عليه. والإسلاميون في السودان هم أصحاب الأمانة في هذا البلد وهم المسؤولون عن أهله أمام الله، وهم بذلك من عليه أن يختار: إما المضي في ذات الطريق وإما الخروج.
"وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.