تأخر إصدار الدستور في بلدان الربيع العربي، يعطي طعما ناقصا لكل الانتصارات المحققة، ويقلل من شأن ثورات استطاعت أن تزيل أنظمة، كانت بالأمس القريب من المستحيلات السبع إزالتها، وتؤكد المقولات الشائعة، أن البناء ليس مثل الهدم، وليست النائحة كالثكلى، وانتقلنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. لماذا تأخر صدور دساتير إلى يومنا هذا، في تونس، وليبيا، ومصر، رغم مرور أكثر من سنة على الربيع هناك؟ لماذا تباطأت عمليات بناء مؤسسات الدولة هناك؟ لماذا كل هذا الفراغ القانوني الرهيب؟ هل الثوار عرفوا كيف يسقطوا الدولة، ولم يعرفوا كيف يقيمونها؟ هل الوحدة التي كانت أثناء الثورة، تبددت في أجواء الانتصار؟ هل علت بعد نشوة الانتصار النعرات الإيديولوجية، والاختلافات السياسية، والتباينات الثقافية؟ هل حقا يصلح الثوار لميادين الوغى والنضال؟ ولا يصلحون لميادين التسيير، والتخطيط، والإنجاز؟ هل معوقات خارجية تريد أن تفرض أجندتها هي السبب في التراخي الملحوظ؟ أم هي معوقات جهات داخلية، ذات مصالح كبيرة، لا زالت تتحكم في دواليب الحكم؟ إذا كانت تونس أقل هذه البلدان سوءا من حيث الانتقال السلس من حال الثورة إلى حال بناء المؤسسات، الواضح أن ليبيا الحرة الجديدة تمثل أسوأ نموذج لذلك، مع انتشار السلاح، وتكاثر الجماعات المسلحة، والفوضى العارمة، وغياب المؤسسة الأمنية الرسمية الضابطة للأمور، بينما تبقى مصر مراوحة مكانها بينهما، فرغم سقوط مبارك، ما زال نظامه متوغل في المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية والإعلامية بقوة، والثوار صاروا مختلفين في الأهداف والوسائل، بعدما كانوا متوحدين قبل ذلك. إذا كان التونسيون قد تجاوزوا مسألة إيجاد التأسيسية، وبانت فيها أغلبية إسلامية، استطاع الليبيون أن ينتخبوا المجلس التأسيسي، إلا أن ضبابية تعتريه مع كثرة المستقلين الذين لا يعرف لهم تموقع دقيق، والمصريون، ما زالوا في معركة إيجاد التأسيسية، في جدال قضائي لا يكاد ينتهي، وعراك سياسي لا تعرف له نهاية، والمهم أنه تترامى إلى أذهاننا أسباب رئيسية، ومعوقات بارزة، تفسر هذا التأخر والتخبط ومراوحة المكان، نجملها في ما يلي: 1) خطأ الثوار في محاولة إزالة مؤسسات الدولة: كل البلدان التي شهدت هذا المنحى، عرفت تطورات دراماتيكية، على المستوى الأمني والسياسي، لما يستيقظ الشعب بلا جيش، ولا قوات الشرطة، ستحل محلهما فوضى المجتمع، واضطرابات في البلد، مثل ما حدث في ليبيا، لذلك أراد الخارج أن لا يعيد أخطاء ليبيا في سوريا حين صرح وزير دفاع الولاياتالمتحدة، وألح على "الإبقاء على القوات الحكومية السورية متماسكة عند ما يطاح بالرئيس بشار الأسد". إن عدم الاستقرار لن يهيئ أجواء إيجابية لأي بناء سياسي، أو تأسيس الدولة. 2) ضغط الخارج: لم تكن "المساعدات الخارجية"، و"المساندات الإعلامية"، و"الاستضافات المجانية"، لبلدان عدة، كبيرة وصغيرة، أن تمر وأن تبقى بدون مقابل سياسي، مما أوقع الحكام الجدد في ورطة، بين متطلبات خارج "ثقيل"، وبين ضغوط شعبية أيضا "ثقيلة"، تواقة إلى الاستقلالية والحرية، والتجاوب مع تطلعات الأمة. 3) طبيعة نظام الحكم: خوفا من عودة الديكتاتورية في ثوب جديد، والاستبداد من الباب الواسع، لم يستقر في بال الأنظمة المنبتقة من أحداث الربيع العربي، صورة واحدة من صور الممارسة الديمقراطية للحكم، هل هو النظام الرئاسي، ومخاطر الاستبداد بالرأي؟ أم النظام نصف الرئاسي، وتعقيداته التنسيقية، ومشكلة الصلاحيات؟ أم النظام البرلماني، والبلبلة السياسية وحالة عدم الاستقرار للتحالفات السياسية؟ هل سيختار نظام فيدرالي مع كل المخاطر الاستقلالية والتوجسات الانقسامية؟ أم نظام مركزي مع ما تواكب هذا النوع من النظام من تفريقات جهوية، وظلم للمناطق؟ 4) موقع الدين ومشكلة العلمانية: ما يزال موقع الإسلام من التشريع وضبط الاجتهادات السياسية، محل اختلافات حامية بين مختلف شرائح الطبقة السياسية الجديدة، بين قائلين بعلمانية الدولة، وإسلاميتها، ينبتق تيار يحاول أن وسطيا مؤكدا على إسلامية الدولة، وبراغماتيتها، وإبراز دور الاجتهاد في صيرورة الدولة في متطلبات العلاقات الخارجية، وملابسات الداخل الملغوم. 5) طريقة الانتخاب: هل طريقة الانتخاب، وما يمثله التعبير الشعبي السيد الحر من إيجابيات، هي أفضل طريقة لاختيار الأشخاص الذين يكتبون الدستور؟ أم طريقة التعيين، المراعية لتركيبة المجتمع ومكوناته، وما تمثله من إشراك الجميع في إعداد الوثيقة التي ستؤسس لطبيعة عيشهم المشترك؟ ثم من بعد ذلك هل النسبية هي أفضل طريقة للتمثيل السياسي في البرلمان المشرع، أم الفردي المباشر ومخاطر استحواذ جهة واحدة على القرار السياسي؟ أم نصف هكذا ونصف هكذا، في محاولة "لقطع التفاحة بين اثنين"؟ لا شك أن مسألة إعداد الدستور مسألة جد هامة في طريق تأسيس الدولة، وأي تأخر في ذلك ستكون له انعكاسات سلبية على المجتمع، وسيفتح الباب أمام الفوضى الاجتماعية والسياسية، التي لن يرتاح المواطن فيها، إما أن يستكمل الثوار ثورتهم ويبلغوا بها إلى شاطئ الأمان، أو ستسرق منهم وتضيع دماء الشهداء، ونضالات الشعب هباء، إما أن يسرع البناءون في تأسيس الدولة، أو يبادر الفوضويون في إزالتها، فالحياة لا تقبل الفراغ، ولا تتحمل المماطلة. عبد الكريم رضا بن يخلف كاتب صحفي ميدل ايست أونلاين