استميحكم عذراً بأن ترفعوا الأكف لله ضراعة بان يخفف عنهم ويرفع عنهم البلاء ويعينهم على ما هم فيه، فقد باغتهم الآلم من وراء ظهورهم ليستقر في الدواخل ويتمكن من أجسادهم.. أطفال لم يتذوقوا حلو الحياة ولكنهم عرفوا كل معاني الألم، لتقيد براءتهم خلف الكراسي وقوائم الانتظار.. وحرم بعضهم من الدراسة والبعض الآخر بالكاد ينتظم في الصفوف.. شباب انفتحت شهيتهم للحياة فباغتهم الفشل ليحجم طموحهم ويحصر رحلاتهم ما بين مراكز الغسيل ورحلات طلب الاستشفاء والراحة.. شابات انفصل عنهن ازواجهن لمرضهن وآخرون فصلهم ارباب العمل بعد ان قل نشاطهم وساعات انتاجهم.. وعلى ذيل القائمة أرباب أسر تقسم زمنهم ما بين الساعات الأربع التي يجلسونها على الماكينات ليزيلوا السموم، وبين رحلات البحث عن الرزق لابنائهم والعلاج لاجسادهم لتستمر مسيرة الحياة. مرضى الفشل الكلوي قائمة تحوي في طياتها قرابة الخمسة آلاف مريض بالبلاد، تزيد بدخول حالات جديدة مسجلة وتنقص بمن اختارهم الله لجواره، ويخرج منها من حالفه الحظ باستزراع ناجح لكلى سليمة رحمته من الانتظار خلف تلك القائمة، ومن المشكلات المتكررة التي يتعرض لها هؤلاء المرضى توقف المراكز ونقص الأدوية وأعطال الأجهزة، فمنهم من يحاصرهم الألم ومنهم من صادقوه واصبح جزءاً من تفاصيل حياتهم. ولما كانت هناك جملة من المشكلات الصحية التي احاطت بهم، فإن الحياة لم تعفهم عن بقية تفاصيلها، لترهقهم الضائقة الاقتصادية، في وقت تشير فيه الإحصاءات ونتائج مراكز البحث الاجتماعي إلى أن غالبيتهم من الفقراء، وإن كان الغسيل مجاناً إلا أن تكاليف العلاج والترحيل والتزامات الحياة اليومية خاصة لأرباب الأسر وما قد يحدث من مضاعفات يرهق كاهلهم الذي أرهقه تعاطي العقاقير، وقد لا يستطيع جلهم توفير مبلغ لايجار تاكسي يوصله لمركز الغسيل، يضاف إلى ذلك أن هؤلاء المرضى منهم من يعمل في القطاعين العام والخاص، ويؤدي تدهور صحتهم الى انقطاعهم عن العمل، مما قد يكون سبباً في فقدانهم لمصادر أرزاقهم. سبع عجاف سبع سنوات من انضر سنوات العمر قضاها يجالس ذلك الكرسي، ويقاسمه لحظات الألم ليخفف عنه جزءاً منه حين يسحب تلك السموم من دمه في صمت تام، لتنحصر بعدها حياته ما بين المنزل ومركز الغسيل، فها هي الوظيفة التي كان يقتات منها قد فقدها بسبب إصابته بالفشل الكلوي منذ بدايات العام 2004م، جلس يحادثني وهو يحكي عن رحلته مع المرض، وبنفس راضية بقضاء الله وما قسمه له قال لي «ف» إنه كان يعمل في القوات النظامية، ولكنه بعد مرضه اصبح لا يستطيع العمل لتعرضه للارهاق المتواصل، وتم إعفاؤه من العمل بسبب تلك التغيرات الصحية، ليتغير مجرى حياته وينحصر ما بين الحاج يوسف شرق النيل مكان اقامته والخرطوم حيث يجري عمليات الغسيل، وبعد ان اقعده المرض عن الانتظام في العمل آثر أن يجند نفسه للعمل التطوعي وخدمة المرضى الذين يجرون عمليات الغسيل معه في المركز، بعد أن اصبح عضواً في جمعية مرضى الكلى بالمركز أو كما قال، يقدم الخدمة للمرضى الذين لا يستطيعون احضار علاجاتهم من الصيدليات الخارجية. ولكن لعل الامتحانات تتوالى، ويتعرض لمشكلة في احد الاوردة في العنق، وطالبه الاطباء بضرورة اجراء صور مقطعية حتى تبين مكان وحجم المشكلة، وبناءً على ما تحدده الصورة سيتم تغيير مكان جهاز الغسيل، وقال: حتى الآن اواصل جلسات الغسيل ولكنها لم تعد ذات جدوى تامة، فانا اجلس على ماكينة الغسيل لمدة أربع ساعات ولا يخرج من جسمي الا الماء الزائد لتبقى السموم في تراكم يوماً بعد يوم، وضيق ذات اليد يقف حائلاً بيني وبين إجراء الصور المقطعية التي بلغت تكلفتها سبعمائة وسبعين جنيهاً «770 جنيهاً». وبحكم المرض لا أستطيع ان اقوم بأي نوع من الأعمال الحرة، ولكني أرغب في إقامة مشروع استثماري صغير من خلاله استطيع تحمل اعباء اسرتي الصغيرة.. ابني في السنة الاولى بمرحلة الاساس والطفلة لم يتجاوز عمرها ثلاث سنوات. في عهد النسيان وجدناها تحمل حقائب السفر قاصدة بيت الله الحرام لأداء عمرة رمضان، وبعبارات ايمانية قالت لي آمال حسن الموظفة في القطاع الحكومي، إن اصابتها بالفشل الكلوي كان لها أثر كبير في تغير احساسها بالحياة، حيث قالت: لم يعد احساسي بها وطعمها كما كان في السابق، حيث ترجلت عندي ملذاتها وما عدت انظر اليها الا من خلال تلك الصالة الطويلة التي ندخلها من باب ونخرج منها من الباب الآخر، ونرى بداخلها ما نرى ونأخذ ما نأخذ، ثم نغادر وقد تركناها لغيرنا، واضافت: ان المرض ليس عائقاً وانما هو حافز ديني قوي اذا ما استطاع الشخص تجاوز الاثر النفسي والتعايش مع المرض ووضع الدنيا خلف ظهره. وعن تاريخها المرضى مع الفشل الكلوي قالت: أنا أصبت بالفشل الكلوي قبل اثني عشر عاماً، أي منذ العام 2000م، وبدأت بعدها جلسات الغسيل الى ان قمت بعملية زراعة كلية في عام 2007م، ولكنها فشلت، وعدت بعدها من جديد الى عمليات الغسيل، ومع ذلك فإن المرض اصبح عندي في عالم النسيان ويكفي انه جعلني اقرب الى الله من ذي قبل، وانتظم في عملي في المؤسسة واراعي ابنائي كما يجب، واراجع لهم دروسهم في المساء، وبالاضافة لذلك اقوم بمشروعات استثمارية صغيرة في الاكسسوارات، وفي مجال العمل الطوعي أنشأت جمعية مرضى الفشل الكلوي بمركز سلمى لغسيل الكلى. وعن مقصدها لبيت الله وجلسات الغسيل قالت لي إنها تواصل جلساتها بانتظام وبإشراف البعثة الطبية في المملكة العربية السعودية أثناء أداء المناسك. هجر وفراق وأنين جاءني صوتها عبر الهاتف ينبئني عن شخصية بسيطة، ولعل قلبها انفطر حين عرجت بالحديث عن بناتها الاربع اللاتي فصلتهن عنها سبع سنوات بعد أن جمعها القدر مع ابنها الذي حضر لوحده من جبل مرة الى الخرطوم وهو في مقتبل العمر، ولم يكن هناك شيء يفرقها عن ابنائها الا ما اصابها في صحتها من وهن، فبعد ان ابتلاها الله بالفشل الكلوي وهي من سكان «جبل مرة» في أقصى غرب البلاد لم يكن امام «ح» سوي البحث عن استشفاء، ولما لم يكن لديها اقرباء في الخرطوم كان عليها أن تقصد أحد ذويها في ولاية القضارف اقرب نقطة لها من الخرطوم، وبعد أن تجري عملية الغسيل تشد الرحال قاصدة القضارف لتعود للجرعة التالية، ولكن بفضل الله وجدت مأوى لها في الخرطوم بعد رحلات تواصلت ما بين الخرطوموالقضارف، وفي هذه الفترة لحق بها ابنها الوحيد للخرطوم، وها هي قد اكملت عامها السابع ولا تستطيع العودة إلى جبل مرة خوفاً من أن تقطع سير العلاج والغسيل، ولم تتمكن من رؤية بناتها الاربع اللائي تركتهن لجدتهن لتعولهن. وبعد أن استقر بها المقام تطمح الى ان تضم بناتها الى حضنها من جديد. تكاتف وتعاضد وضعف حيلة أمسكت بيمناي ووضعتها على عضدها الايسر، هي ثوانٍ لكنها ظلت عالقة في ذهني حين احسست بحركته وصوته، بعدها قالت لي، هذا هو الجهاز الذي يتصل بالكرسي الذي نجري عليه عمليات الغسيل، «الفستلة» فهو يقيد المريض بألا يحمل بيده هذه حملاً مهما خف او ثقل حتى لا يتوقف، لأن توقفة يعني أنه لا يمكن إجراء عمليات أخرى للغسيل إلا بتركيب جهاز آخر، وقد يستغرق ذلك حوالى 45 يوماً، وأشاحت الثوب عن عنقها لتشير لي إلى مكان القسطرة الموضوعة على عنقها في الجهة اليمني، وقالت لي إن هذه الاجهزة تقدر بملايين الجنيهات ولا بد لمريض الفشل الكلوي ان يتحصل عليها بالاضافة الى العلاجات المستمرة. وقالت لي الامين العام لجمعية مرضى الفشل الكلوي بمركز الدكتورة سلمي التابع لجامعة الخرطوم، انهم في المركز عمدوا إلى انشاء جمعية من قبل مجموعة من المرضى النشطين حتى يتكاتف المرضى فيما بينهم، ويدعمون الأكثر حاجة، ويخدم المريض منهم من هو أكثر منه مرضاً وأضيق حالاً، إلا إنها قالت: كثيراً ما نجد أنفسنا مكتوفي الايدي تجاه الكثير من الحالات التي تستلزم الدعم، وطرقنا العديد من أبواب الخير لدعم الجمعية والمرضى. وحدثتني عن العامل النفسي بوصفه عاملاً مهماً في رحلة المرض من حيث تجارب عايشتها، وسردت لي تجارب متزوجين انفصل عنهم أزواجهم بعد مرضهم، وأطفال تحت الماكينات، وأسر تأتي مترافقة، فالأب والأم والأبناء يجلسون على الماكينات بالتتالي، وأغلب المرضى أرباب أسر، وهناك من استغني عنهم لعدم كفاءتهم. الصحافة