في السودان، كما في غيره من البلدان العربية، تنشط فيالق من المنظمات والمتطوعين في حقل الدفاع عن حقوق الإنسان. لكن جُلَّ هذا الجهد يكاد يطير هباءً، لقيامه، أولاً على مناهج عقيمة، ولافتقاره، ثانياً، إلى مشاركة الجماهير الواسعة، وبالتالي إلى المردود الذي يكافئ ما يُبذل فيه مِن بسالة وتضحية، وما ذلك إلا بسبب الفجوة الفاغرة في صميم بنيته على صعيد "تعليم" هذه الحقوق، وتعمُّل مصادمتها لمفهوم "السيادة"، والخضوع فيها لضرب من المركزوية الغربية، وكلها أمور تحتاج لعلاج خاص، في كل الأمداء المستقبلية، القريب منها، والمتوسط، والبعيد. (1) ينسحب هذا الأمر، بطبيعة الحال، على أغلب بلدان "العالم الثالث" التي لا تقوم لأنظمتها قائمة بغير الانتهاك المتواصل لحقوق الإنسان من جانب السلطات التنفيذية، والتشريعية، وحتى القضائية. فالطابع العالمي لإلزامية هذه الحقوق يصادم أمن النظام المقرر فوق أي اعتبار للعدل أو الحرية. ومن ثم فليس أقدر على التصدي لهذا الانتهاك مِن جماهير ضحاياه أنفسهم، في ما لو "أدركوا" هذه الضرورة. ولعل هذا ما يفسر الأهمية التي يكتسيها "تعليم" هذه الحقوق في الكثير من وثائقها، كما وفي المتواتر من مقررات وتوصيات مؤتمراتها وفعالياتها الدولية والإقليمية. التصدي، إذن، للدفاع عن هذه الحقوق من فوق "علم" وثيق، يعتبر واجباً جماهيرياً عاماً، بل فرض عين على كل فرد، ف "حريات الناس أثمن من أن يؤتمن عليها الآخرون، وثمن حرية كل فرد هو دوام سهره على حراستها" (الباقر العفيف؛ "نحو منهج لتدريس حقوق الإنسان"، ضمن مداولات مؤتمر التعليم العالي في السودان، القاهرة 1999م). ولما كانت "المعرفة" هي الشرط الأساسي لاستدامة هذه الحريات، فإن "تعلم" الجماهير لهذه الحقوق، و"إدراكها" الوثيق لإشكالاتها، يعتبر الضمانة الأقوى لانخراطها في حراستها. على أن غياب "تعليم" حقوق الإنسان لا يعني، بأيِّ حال، عدم وجود اهتمام بها في الوقت الراهن؛ فحركتها، على قصورها، لم تعدم أثراً تنحته في بنية العمل العام، وما زالت تواصل استقطابها لاهتمام مختلف القوى السياسية والاجتماعية. لكن هذا الاستقطاب ما يزال أقرب إلى الصفوية منه إلى الجماهيرية، لذا فثمة احتياج لإدراج هذه الحقوق ضمن برامج "التعليم" النظامي، في مؤسساته التقليدية، وغير النظامي، عبر كورسات المنتديات العامة، وعروض السينما المتجولة في مدارس الأحياء الشعبية وأنديتها، ووسائط الاتصال الجماهيرية، كالراديو، والتلفاز، وغيرها، لتسليح الأجيال الناشئة، وأوسع قطاعات الشعب، ب "المعرفة" الوثيقة على هذا الصعيد. وينبغي، بطبيعة الحال، عدم إغفال أن النظام سيجابه مثل هذه المشاريع بمناوئة رسمية صارمة، مما يقتضي عدم النظر إليها كمنجز سلس، وإنما كساحة صراع سياسي. مهما يكن من أمر، فإن هذا "التعليم" المتميِّز يَفترض التركيز، ليس فقط على تشكيل الذات الحاملة للمعرفة بحقوق الإنسان، وإنما المنفعلة بها أيضاً، وكذلك عدم الاقتصار على المناهج التقليدية، التي تنتهي، عادة، بامتحانات تحدد مستويات التحصيل، واستحقاقات شهادات التأهيل. (2) في هذا الإطار يكتسي إدماج حقوق الإنسان ضمن الدراسات الجامعية والعليا أهمية خاصة، ليس فقط لما توفر هذه المرحلة من معرفة أكاديمية متقدمة، بل ولما تتيح من بيئة بحثية لترقية هذه المعرفة، من ناحية، ولاجتراح أنجع مناهج انفتاحها على المجتمع، من ناحية أخرى، لضمان بناء رأى عام منيع ضد أيِّ انتهاك لهذه الحقوق. تاريخياً كانت الجامعات الأوروبية سباقة في هذا المضمار، فلم تكتف بإدراج حقوق الإنسان ضمن مقرراتها، بل وثقت صلاتها مع المجتمع، مما انعكس في استنهاض وعي شعبي عام بهذه الحقوق، مهَّد لإبرام اتفاقيات، وإنشاء مؤسسات، مثل "اتفاقية روما لحماية حقوق الإنسان 1950م"، و"اتفاقية جنيف الرابعة 1949م"، و"المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان"، و"معهد جنيف للقانون الإنساني"، و"المعهد الدولي لحقوق الإنسان" بكلية القانون بجامعة ستراسبورغ، وما إليه. أما في العالم العربي فإن الاهتمام الرسمي بهذه الحقوق لم يبدأ إلا بعد هزيمة 1967م، حيث عقدت الجامعة العربية مؤتمراً للقانون الدولي الإنساني، أعقبته بتخصيص جوائز، عام 1969م، لأفضل الدراسات في حقوق الإنسان. وحده المجتمع المدني العربي، ممثلاً في اتحاد المحامين العرب، هو الذي اهتم، منذ تأسيسه عام 1944م، بهذه الحقوق، لكنه لم يلتفت لضرورة "تعليمها" إلا خلال ربع القرن الماضي. لذا فالتجارب الناضجة قليلة في الجامعات العربية، والموجود منها محصور في كليات الحقوق، كما في الكويت والأردن. وأما في السودان فقد بدد ضعف الإمكانات كل الفرص التي سنحت لجامعة الخرطوم، مثلاً، في هذا الشأن، كفرصة إنشاء وحدة بكلية القانون، مطلع ثمانينات القرن المنصرم، لتنشيط أبحاث حقوق الإنسان، وتشكيل حلقة وصل مع بقية الكليات (علي سليمان؛ "تدريس حقوق الإنسان بكلية القانون بجامعة الخرطوم"، ضمن: تدريس حقوق الإنسان وتطوير التعليم القانونى بالجامعات العربية، اتحاد المحامين العرب، القاهرة 1987م). وكان من شأن هذه الوحدة، حال إنشائها، تشكيل جسر للتواصل، أيضاً، مع المجتمع، تأسياً بالدور التنويري للجامعات الغربية. رغم ذلك ما يزال ضرورياً جعل الدور التنويري، ليس لجامعاتنا، فحسب، بل ولمختلف مراكز الدراسات، والباحثين، ومؤسسات المجتمع المدني في بلادنا، جوهراً لعملية "تعليمية" تعمُّ المجتمع كله، فتفجِّر وعياً جماهيرياً عريضاً بحقوق الإنسان، وبالإشكاليات المطروحة في أفقها، وبمداخل فضِّها. (3) نضيء، هنا، باقتضاب، نموذجين من هذه الإشكاليات التي يتطلب فضُّها عملية "تعليمية" تُكسِب "الوعي" بحقوق الإنسان طابعاً شعبياً عاماً: النموذج الأول: المجابهة بين مفهومي "السيادة الوطنية" و"حقوق الإنسان". فممارسة الدولة لوظائف خارجية أفضت، منذ القرن السابع عشر، إلى نشأة وتطوُّر القانون الدولي المعاصر، كرَّست معاهدة وستفاليا لسنة 1648م "السيادة" التقليدية للدولة القومية على إقليمها، بما فيه رعاياها. وبالنظر لكون الدولة تمثل منظمة العنف المشروع الوحيدة، فإن المعاهدة أرست القاعدة القانونية التي تحتكر الدولة، بموجبها، فرض الطاعة على رعاياها، داخلياً، وحماية استقلال إقليمها خارجياً. وحالياً، وباستثناء تدابير الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، يحظر القانون الدولي التدخل في شؤون الدول، أو استخدام القوة في العلاقات الدوليَّة. لكن تطوُّر العلاقات السياسية الداخلية إلى آفاق أكثر ديمقراطية وأنسنة، خلال القرن الماضي، انعكس أيضاً في تطوُّر العلاقات الدولية والقانون الدولي باتجاه رعاية مصالح الأفراد والشعوب. فكان أن انسحبت تلك التحوُّلات إلى مفهوم "السيادة" التقليدي، لتتقدم القواعد التي تقتضي التدخل الدولي، وتكفَّ علاقة الدولة بمواطنيها عن أن تكون شأناً داخلياً في ذات اللحظة التي تسبب لهم فيها كوارث خطيرة، كالجرائم ضد الإنسانية، مثلاً، كونها صارت في موضع الاهتمام الدولي الذي تشبع بعالمية حقوق الإنسان. هكذا ترتبت على الدولة التزامات تجاه مواطنيها، إن لم تفِ بها يتدخل المجتمع الدولي لإنفاذها. مع ذلك ينبغي ألا تكون ثمة أوهام حول أن الاختلال الحالي في ميزان القوة الدولي قد يتيح استخدام الدلالة الجديدة لمفهوم "السيادة" كذريعة للهيمنة؛ لكن مقاومة ذلك لا تكون بإهدار الحماية الدولية لحقوق الإنسان، وإنما بالنضال من أجل تغيير ميزان القوة. النموذج الثاني: الخلط المتأتِّي من تخصيص "السياق الغربي" وحده بنشأة وتطوُّر "المفهوم القانوني الدولي" لحقوق الإنسان، واستبعاد مساهمات مختلف الأمم في "السياق الثقافي التاريخي" لتينك النشأة والتطوُّر، سواءً باستلهامات عقيدية، أو بمحض الفطرة السليمة. لقد كان ممكناً أن نتفق مع ما ذهب إليه البعض حول "نسبيَّة حقوق الإنسان" في مختلف الثقافات (محمد يوسف علوان؛ "تدريس حقوق الإنسان في الجامعات العربية: الواقع والطموح"، ضمن: محمد شريف بسيوني وآخرون (إعداد)؛ حقوق الإنسان، م/4، 1989م)، أو حتى حول "نسبة المفهوم إلى الغرب" (حيدر إبراهيم علي؛ "التعليم الدينى أو تديين التعليم وحقوق الإنسان"، ضمن "مؤتمر تعليم حقوق الإنسان في السودان"، جامعة الأحفاد ومركز الخرطوم لحقوق الإنسان، الخرطوم، ديسمبر 2003م)، لولا عدم تفريق كليهما بين المفهومين "الثقافي التاريخي" و"القانوني الدولي". فحقوق الإنسان، من زاوية المفهوم الأول، متجذرة في كل بنية ثقافية، على تفاوت إسهامها في بلورة المفهوم الأخير؛ لكن التفاوت لا يلغي الإسهام نفسه، بل، على العكس، يؤكده. عدم التقيد بهذه الضوابط المفاهيمية والمصطلحية قد يتسبب في سوء التفاهم، حين تلتبس الحدود الدلالية لمصطلح "حقوق الإنسان"، مما قد يوحي، مثلاً، بتوقيف نشأة وتطوُّر القانون الدولي لحقوق الإنسان على الغرب وحده، لدرجة إسقاط كل ما أسهمت به ثقافات الأمم الأخرى في رفد "القانون الدولي" بعناصره الإنسانية. إن الاتجاهات الحديثة في نظرية الثقافة لا توقف الاعتراف بإسهام أمَّة ما في رفد الثقافة العالمية على حجم هذا الإسهام، فقد ثبت أن كل بنية ثقافية تختزن قدراً قابلاً للتطوُّر من القيم الفطرية التي تعلي من شأن العدل والحرية والكرامة والمساواة وغيرها. وإذا وجدت عناصر مصادمة لهذه القيم في بعض البنيات الثقافية، فإنها لا توجد في حالة سكون، بل في حالة صراع مع النزعات الفطرية. وقد وصف أحمد عبد الله هذه القيم ب "الجوهر الذي دارت حوله فكرة حقوق الإنسان" (حقوق الإنسان - حق المشاركة.. وواجب الحوار، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان،1996م)، ووصفها منصف المرزوقي بأنها "ليست سوى الطبعة العصرية لمطالب بعضها قديم قدم الإنسانية نفسها" (حقوق الإنسان - الرؤية الجديدة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1996م).. أما نصر حامد أبو زيد فقد اعتبر أن "في دعوى الأصل الغربي الخالص لمفاهيم حقوق الإنسان جهلاً فاضحاً بالتاريخ، وسلباً لفائض القيمة الثقافي والحضاري والفكري الذي ساهمت به كل الثقافات والحضارات الإنسانية في تيار الثقافة التي تسمى غربية الآن" ("حقوق الإنسان بين العالمية والنسبية الثقافية - البحث .. في الإسلام"، تعقيب ضمن "غانم جواد؛ الحق قديم وثائق حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية"، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2000م). (4) إذن، ورفعاً للالتباس، يتوجب ضبط المصطلح بحسب السياق الذي يرد فيه، فيقتصر، في الخطاب الحقوقي والسياسي، على دلالة "المفهوم القانوني الدولي" الذي تعكسه المواثيق الدولية، ك "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948م"، والعهدين الدوليين لسنة 1966م، مثلاً. أما من جهة تدامج هذه الحقوق في نسيج كل الثقافات، فينبغي ضبط المصطلح بدلالة "المفهوم الثقافي التاريخي"، دون إغفال أثر الصراع الاجتماعي، بطبيعة الحال، على الموقف، مثلاً، من المرأة أو الهوامش الإثنيَّة. فى ضوء هذا النظر لا بد للعرب والمسلمين من "تأصيل" حقوق الإنسان في تراث الإسلام وثقافة الأمة، لتصبح "شرعة مقترحة من رجال ونساء، من بلدان وأديان وألوان مختلفة، في لحظة تاريخية معينة .. ولحسن الحظ ليست لها صفة القداسة" (هيثم مناع - ضمن نصر حامد أبو زيد؛ 2000م). على أنه ينبغي عدم الانحراف بالقضية إلى مجابهة دينية، فالأمر لا يعدو ".. البحث عن وسائل لاستثمار العناصر الثقافية والفكرية التي تساعد على تقبل قيم حقوق الإنسان في مستوى الوعي والتطبيق" (نصر حامد أبو زيد؛ 2000م). إن أيَّ فهم مغاير سيفضي إما إلى "الغربنة"، حين يحجب "المفهوم القانوني الدولي" أثر "المفهوم الثقافي التاريخي"، وينتسب، فقط، إلى محطات التطور الغربي، كوثيقة (الماجناكارتا) الإنجليزية لسنة 1215م، ومبادئ الثورة الفرنسية لسنة 1789م؛ أو يفضي إلى "الشوفينية"، والانزواء في كهوف التاريخ، حين يحصر نسب "المفهوم الثقافي التاريخي" في المعري، أو ابن عربي (منصف المرزوقي؛ حقوق الإنسان - الرؤية الجديدة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1996م). المصدر:الجزيرة