( عيون الثغالب ) رواية للكاتبة السعودية ليلى الأحيدب صدرت قبل ثلاثة أعوام ، ولكنني لم أطلع عليها إلا هذه الأيام حين حملها إلي أحد الأصدقاء . ومع أنني ضعيف الثقة بالرواية العربية فكرت بأن أقرأها بدافعين ، أحدهما شخصي والآخر عام . أما الدافع الشخصي فهو أن المؤلفة اختارت قصيدة قصيرة من قصائدي وأدخلتها في متن روايتها ، والثاني أن مؤلفتها امرأة سعودية ، فدفعني الفضول إلى معرفة كيف تفكر وتبدع امرأة سعودية تعيش داخل بلادها بإزاء ما تنقل الأخبار الصحفية والروايات الشفهية عن أحوال المرأة السعودية ، ثم كيف وفي أي سياق من روايتها وضعت قصيدتي التي اختارتها في متن روايتها . وبعد قراءة الرواية فكرت بأن أكتب عنها ، لأنها أثارت عندي أكثر من سؤال . وقبل الشروع في الكتابة حاولت أن أعرف شيئاً عن مؤلفتها ، لأنني لم أقرأ لها من قبل ، ولم أسمع بها مع الأسف ، فلجأت إلى ( الإنترنيت ) وقرأت بعض ما وجدت من مقالات كتبتها ، وأخرى كتبت عن روايتها ، وحوارات صحفية أجريت معها ، فاتضح لي أنها بدأت تنشر قصصاً قصيرة منذ عام 1985 ، وأصدرت مجموعتها القصصية الأولى ( البحث عن يوم سابع ) عام 1997 ، أي بعد اثني عشر عاماً من نقطة البداية ، أما رواية ( عيون الثعالب ) فهي عملها القصصي الثاني ، وهذا العمل لم يصدر إلا بعد مرور اثني عشر عاماً أخرى على صدور مجوعتها القصصية الأولى ( 2009 ) ثم أصدرت عام ( 2011 ) مجموعة قصصية ثانية عنوانها ( فتاة النص ) . وإذا كان هذا هو كل إنتاجها القصصي فهي مقلة إذن ، أو متأنية ، في كتاباتها القصصية . تدور أحداث رواية ( عيون الثعالب ) في ثمانينيات القرن الماضي ، أي في الحقبة التي بدأت مؤلفتها النشر فيها ، وهي الحقبة التي دخلت فيها أفكار الحداثة عالم الأدب في السعودية وظهر خلالها شعراء وقصاصون ونقاد يؤمنون بهذه الأفكار ، ويسعون إلى تحديث الأدب السعودي ضمن نزوع عام إلى تحديث المجتمع السعودي نفسه ، ومنهم ليلى الأحيدب . وبالرغم من الحرية النسبية التي أتيحت للحداثيين في نشر ما يكتبونه في الصحف والمجلات المحلية يومئذ ، كانوا مهددين في الوقت نفسه بتهم ( الضلال والكفر والخروج على الملّة ) . ثم ازدادت أجواء القمع الاجتماعي وخامة وقتامة ، فشُهِّر بهم ، بأسمائهم الصريحة ، في كتاب ألفه الشيخ ( عوض القرني ) ووقعه شيخ آخر متنفذ ، سمته المؤلفة ( ابن عامر ) وهو الشيخ ( ابن باز ) في ما أحسب ، ووُضِعت قائمة سوداء بأسماء دعاة الحداثة الأدبية من العرب ومُنِع هؤلاء وكتبهم ومجلاتهم من دخول البلاد ، كما نشرت صحف تلك الأيام . وقد لمست وخامة هذه الأجواء بنفسي في أواخر الثمانينيات ، يوم دعيت للمشاركة في مهرجان الشعر الخليجي الأول ( والأخير ) في الرياض . فقد قاطعني بعض الحضور عندما كنت ألقي قصيدة لي في إحدى جلسات المهرجان ، واحتجوا على تعبير مجازي ورد في القصيدة هو ( يا لهذا الشجرْ / من إلهٍ حزينْ ) وعدّوه بتعسف مساً بالذات الإلهية ، وطلبوا مني التوضيح والاعتذار ، وأنا مجرد ضيف عابر في قراءة شعرية عابرة ! إذن أحداث رواية ( عيون الثعالب ) دارت في تلك الحقبة ، وفي هذا المناخ الملبد ، ولكنها كشفت بالمقابل عن جانب مجهول ، أو خفي ، من واقع العلاقات التي كانت سائدة ، حسب الرواية ، بين أدباء الحداثة السعوديين من ذكور وإناث . فهي ، كما صورتها ، علاقات غير طبيعية ، ولا موضوعية ، علاقات نفعية ، غير نظيفة ، فالأدباء الحداثيون الذكور ينظرون إلى الأديبات الحداثيات المتطلعات إلى البروز والشهرة بعيون الثعالب ، لأنهن في نظرهم إناث قبل كل شيء ، وعليهن أن يدفعن من أنوثتهن ثمن الاهتمام بنصوصهن ونشرها في الصحف والمجلات وإبرازها عند النشر ثم نقدها والثناء عليها ، وكن بالمقابل يتهافتن على ذلك ولا يتورعن عن استخدام أنوثتهن لدفع هذا الثمن ، وتقديمه من أجسادهن إن لزم الأمر . وتقدم لنا الرواية نماذج من هؤلاء وهؤلاء ، وتكشف عن كيفية استدراج الإناث إلى الشراك التي ينصبها لهن فرسان الحداثة في لقاءات يفترض أنها لقاءات أدبية بريئة ونظيفة ، لقاءات للتحاور وتبادل الآراء وقراءة النصوص ونقدها ، ولكنها في الواقع كانت فضاءات يلتقون فيها ، ذكوراً وإناثاً ، بعيداً عن العيون ، ليحاول خلالها كل فرد منهم الحصول على مبتغاه . وخلاصة حبكة الرواية أن بطلتها فتاة جامعية في العشرين من عمرها ، اسمها مريم ، وهي من عائلة محافظة لها وزنها في المجتمع ، ولكنها فتاة متمردة ، متحررة ، مولعة بالكتابة ، مؤمنة بالحداثة ، ومعجبة بعرّابها علي ، وتحاول أن تكتب نصوصاً حديثة برعايته ، فتتعلق به وتتخذ منه أنموذجاً ورمزاً وملهماً في الكتابة ، ولكنها تقترب منه وتتقرب إليه أكثر مما يتطلب هذا الأمر ، برغم أنها تحب رجلاً آخر وتفكر بالزواج منه ، هو يوسف الذي يعمل محرراً فنياً في الصحيفة التي يعمل فيها علي . غير أن علياً هذا لا ينظر إليها إلا بوصفها أنثى أخرى عابرة من الإناث المعجبات به ويستجبن لرغباته . ومع ذلك تلاحقه ، وتحضر اللقاءات التي يحضرها ، وهي تأمل أن يثني على نصوصها ، وتطارده بالاتصالات الهاتفية واللقاءات الخارجية المفاجئة ، وتفتعل المناسبات لتنفرد به ، وتصحبه إلى بيته وهو أعزب أربعيني لا أحد يعيش معه في البيت ، وتسمح له بأن يغازلها ويتلمس شعرها ويحتضنها ويقبلها ، وتعلن له صراحة أنها متعلقة به ، وتفرط في إعلان إعجابها بنصوصه ، بينما هو يحذرها ، ويذكرها بخطورة علاقتها به ، ويصارحها بأنه لا يصلح لها ، وأنه لا يستحق ما تفعله من أجله ، وأنه رجل عادي يعرف مليون امرأة ، وليس ملاكاً ولا مبشراً ، وليس مستعداً لأن يلتزم معها بأي التزام . وهي لم تكن غافلة عن كل ذلك ، بل كانت تدرك تمام الإدراك أنه ( مراهق مندفع ومغامر وسريع الملل ) ولكنها تظل ، مع ذلك ، لصيقة به حتى يحس ، أو يكتشف ، حبيبها يوسف أنها على علاقة بغيره فيصارحها بأنه ليس راغباً في الزواج منها . وعندئذ تدبر لعلي مكيدة فظيعة في تفاصيلها ، مكيدة ترغمه على أن يتزوجها بضغط من ( هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وتعيش معه بعد الزواج رغماً عنه ، ثم تدبر له مكيدة أخرى غريبة فتحمل منه دون علمه ورضاه ، لتوثق علاقتها به برباط آخر غير عقد الزواج ، ولا تخبره بحدوث الحمل إلا بعد أن أصبح إسقاط الجنين أمرأ متعذراً ، وأخيراً تنتهي الرواية نهاية معلقة تفتح الباب لشتى الاحتمالات والتأويلات بشأن مستقبل هذه العلاقة الزوجية الملتبسة . هناك شخصيات أخرى في الرواية هم أفراد عائلة البطلة : جدتها لطيفة التي تسهر على متابعتها ، وأختها ريم التي تشاركها نزقها بحدود ضيقة ، وأبوها الذي تزوج من امرأة أخرى بعد وفاة أمها وانشغل بها ، وأخوتها الذكور الذين لا نعرف عنهم شيئاً ، وهناك عمها عبد العزيز الذي يعمل في سلك القضاء ، وهو رجل متزمت يستخف بما تنشره في الصحف باسمها الصريح ويحذرها من العواقب فتضطر إلى النشر باسم مستعار . وعدا هذه الشخصيات هنالك الشلة الحداثية بذكورها وإناثها : هنالك سعيد ، الفارس الثاني من فرسان الحداثة وشريك علي في نزواته ومغامراته ، والشاعر الشاب ناصر الذي تكتشف مريم في نهايات الرواية علاقته الشاذة المنحرفة بعلي ، وفهد عازف العود في جلسات الشلة ولقاءاتها ، وهناك عائشة أستاذة التاريخ التي تحمل أفكاراً سياسية إلى جانب نشاطها الأدبي ، وندى التي تكتب الشعر وتحب سعيد الذي يتنقل من واحدة إلى أخرى وهي نفسها تتنقل مثله من واحد إلى آخر حتى تصبح امرأة مشاعة بين ذكور الشلة ، وهناك مشاعل أستاذة الأدب ، وأسماء الشاعرة التي يتودد سعيد إليها بعد ندى ، والفنانة التشكيلية نائلة ، ونادية الشاعرة المبتدئة التي يتلقفها علي بعد مريم ليتولى رعايتها كما رعاها ورعى أمثالها ، هذا فضلاً عن ثلاث شخصيات من خارج الشلة هي : مشعل ، وهو أحد المعارف ، ومنى صديقة مريم وشريكتها في بعض ألاعيبها ، والأستاذة منيرة المتدينة الواعظة وعلاقتها ب ( هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) . وهنا نتوقف لنسأل : هل الصورة التي قدمتها الرواية عن حداثيي الثمانينيات في بلادها صورة واقعية ؟ هل كان فرسان الحداثة وفارساتها على النحو الذي وصفتهم به ؟ كاتب واحد فقط من الكتاب السعوديين رأى أن ( الرواية انطلقت من بنية ذهنية جسدت الارتياب فاتكأت عليه ) هو الدكتور عالي سرحان القرشي . وقد فهمت من هذا القول أن الرواية لم تنطلق من الواقع الملموس في رأيه ، بل من تصور ذهني لواقع الحداثيين وسلوكهم وسلطتهم الثقافية . غير أن الكاتب عبد الله باخشوين سجل على غلاف الرواية الأخير أنها عمل ( يستمد من الواقع الثقافي شرعيته وخصوصيته) . ويقول الناقد عبد الله آل ملحم : إن مسرح الرواية المكاني هو الرياض ، وفيها دارت أحداثها ، ومن المشهد الثقافي ( الإعلامي ) انبثق أبرز شخوصها ، وفكرتها لا يمكن أن تكون متخيلة . ويصف كاتب آخر هو علي السديري الرواية بأنها ( ريبورتاج يتطابق ما حدث فيها مع ما حدث في تلك المرحلة التاريخية ) . أما المؤلفة فقالت في حوار أجري معها إنها أرادت أن ترسم المشهد الثقافي بواقعية بعيدة عن تبني وجهات نظر مؤدلجة . وأكدت هذا بالألفاظ نفسها في حوار آخر لها مع الكاتبة هدى الدغفق . وذكرت الدغفق ، وهي صديقة للمؤلفة في ما يبدو أن الرواية ( تحفل بإيحاءات قوية ، وإن كانت مموهة ، لشخصيات ثقافية ما زالت بيننا ) . ويظهر أن الصورة التي قدمتها الرواية هي من الواقعية بحيث جعلت كثيرين يطابقون بين شخصيات الرواية وشخصيات أخرى حقيقية موجودة في الوسط الثقافي ، وخاصة شخصية علي عراب الحداثة ، لاسيما وأن أربعة من أسماء شخصياتها وردت صراحة في كتاب القرني . حتى أنا الذي أعيش في قطر آخر ولم أزر السعودية إلا تلك الزيارة الخاطفة ، حتى أنا خطرت في ذهني مثل هذه المطابقة بين شخصيات الرواية وأكثر من شخصية أدبية سعودية حداثية أعرفها والتقيت بها في مناسبات مختلفة . فإذا كان الأمر كذلك فماذا أرادت المؤلفة أن تقول ؟ هل أرادت إدانة الحداثة أم الحداثيين ؟ في حوار صحفي أجراه مع المؤلفة صلاح القرشي قالت ما نصه ( الرواية نص لا يدين ولا يحكم ولا يجرم ) . وهذا صحيح . الرواية نص ، ولكن النص الذي قدمته لنا حافل بما يدين الحداثيين بالازدواجية والتناقض بين ما يقدمون من فكر على صعيد الكتابة وما يسلكون من سلوك على صعيد الواقع . وإلا فماذا يعني أن تقدم الحداثيين للملأ في صورة شلة منحلة بمعايير المجتمع وقيمه وتقاليده وأعرافه وقوانينه السائدة ومؤسساته الدينية والمدنية ، ولا تقدم في موازاتها شلة ، أو شخصيات ، حداثية أخرى مختلفة عنها ، أو تلمح إلى وجودها في الوسط الثقافي مجرد تلميح ؟ أليست الصورة التي قدمتها عن الحداثيين هي كتلك التي رسمها لهم الشيخ القرني ؟ أليست هذه إدانة لهم جميعاً ؟ أليست إدانة لعلي ، المفكر الجاد والمنظّر ، أن يقدم في صورة الرجل الذي يغوي الفتيات الصغيرات بالثناء على نصوصهن ونشرها ونقدها ويغوي ناصر الشاعر الشاب ويمارس معه الشذوذ الجنسي ؟ وماذا عن سعيد الذي يستغل ندى التي تحبه حد الإذلال ، ثم يهجرها إلى غيرها ، ويعود إليها مرة أخرى ثم يهجرها ؟ بلى ، إنها إدانة للحداثيين الذكور دون أي التباس . ولكن النص الذي قدمته المؤلفة لا يدين الحداثيين الذكور فقط ، بل يدين الإناث الحداثيات أيضاً ، من حيث تدري المؤلفة أو لا تدري . فقد قدمهن لنا بصورة النساء المتهالكات على حب الظهور وتسلق سلم الشهرة حتى لو أدى ذلك إلى التفريط ببراءتهن وعفتهن ، والمغامرة بسمعتهن وسمعة عوائلهن المحافظة . فما من واحدة منهن إلا وقد ثلمت براءتها وعفتها ، أو هي في سبيلها إلى ذلك كما يوحي النص . بل أن إحداهن ، وهي ندى ، تحولت إلى ملك مشاع لذكور الشلة نكاية بسعيد أو به وبنفسها . والطريف أنه ما من واحدة من هذه الحداثيات إلا وتغار من أخرى في الشلة ، وتدفعها غيرتها إلى المغالاة في دفع الثمن . أما بطلة الرواية مريم فهي قد فعلت كل ما فعلت بكامل وعيها ، وبتخطيط ماكر منها ، لتحظى بعلي ، حتى بدا علي نفسه أنبل منها لأنه حذرها وكان صريحاً واضحاً معها . هذا يعني أن نص الرواية يتجاوز موضوع ( علاقة المبدع بالمبدعة ) الذي تؤكد المؤلفة في حوارتها الصحفية أنه هو موضوعها ، ليصبح إدانة عامة تشمل كل شلة الحداثة ، ذكوراً وإناثاً ، فليس هناك أنموذج حداثي إيجابي واحد في الرواية يمكن أن نستثنيه من هذه الإدانة . ولا أظنني بعد هذا أبالغ إذا قلت : إن نص الرواية يدين الحداثة نفسها فكراً وسلوكاً ، ويشوه صورتها ، لدى الجمهور العام في الأقل ، حتى لتبدو لهذا الجمهور ( تحللاً ) من جميع الاعتبارات . وسلوك فرسانها ، من الذكور والإناث ، هو الدليل على هذا التحلل . وبرغم أن المؤلفة تقول في حوار صحفي لها مع صلاح القرشي إن روايتها ( ليست وثيقة حية عن الحداثة السعودية ) وإنها لم تكتبها لهذا الهدف ، ولكنها قدمت فيها عملياً ( شهادة ) قاتمة عنها ، شاءت أم أبت ، وأكدت للملأ صحة ما كان يشاع في الأوساط الأخرى عن تلك الشلة في حينها . ولو أراد الشيخ القرني شهادة يتكئ عليها في اتهام الحداثة وإدانتها ب ( الزندقة والفسوق ) كما فعل في كتابه ( الحداثة في ميزان الإسلام ) لما وجد شهادة أبلغ من هذه الرواية . ومع ذلك تقول مؤلفتها إنها قدمت ( صورة شديدة التهذيب عن حكاية الحداثة ) في بلادها و ( إن هناك ما يمكن إضافته ) في هذا المجال . ترى ماذا كانت ستقول لو أنها أرادت أن تقدم صورة ( أقل تهذيباً ) من الصورة التي قدمتها ؟ ! أكيد أن المؤلفة لن ترضى بهذا الاستنتاج ( التأويل ) لأنها ما تزال تفخر بانتمائها إلى تلك المرحلة ، وتعد نفسها من أدباء الحداثة ، وهي كذلك حقاً ، ولكن العبرة ليست في نياتها ، ولا في ما تسقطه الآن على النص بما تقدم من إيضاحات وتفسيرات ، بل في ما تحقق في النص فعلاً ، وفي ما صار هذا النص يقترحه على القارئ من تأويلات . فهذا النص بلغ في تبشيع صورة الجماعة الحداثية مبلغاً يسوغ الظن بأن المؤلفة أرادت أن تصفي حسابها مع الحداثة نفسها وإعلان براءتها منها . ولعل مما يشجع على هذه القراءة إعلانها في مجلة ( اليمامة ) التعاطف مع الكاتب سعد الدوسري وترحيبها ب ( توبته ) التي اعتذر فيها عن بعض كتاباته السابقة في نوع من المراجعة الدينية المتأخرة ، لأنه كتبها أيام كان في ( فوضى ثقافية ، أو سياسية ، أو عاطفية ) كما يقول . فما كتبه الدوسري أراح المؤلفة ( من هاجس الوحدة والعزلة ) لأنها وجدت فيه ما تفكر هي به أحياناً ، فهي مثله الآن ، مثل الدوسري ، لا تريد أن تظل كما يريدها كثيرون ( تلك القاصة الشاطحة ، تلك الكاتبة المغامرة البعيدة عن الكتابة الدينية الإصلاحية ) حسب قولها . هي حرة بالطبع ، ولها الحق في أن تراجع نفسها وتعيد النظر في أفكارها ومواقفها بعد أن بلغت ما بلغت من نضج واكتسبت ما اكتسبت من معرفة وخبرة ، ولكننا نتعامل هنا مع نص خرج من بين يديها ، وأصبح لقرائه حق تأويله بحسب ما يقرؤونه فيه . وما قلته هنا عنه هو ما توصلت إليه من قراءته . ولعل مما يلفت النظر أن نص الرواية لم يدن القمع الاجتماعي مثلما أدان الشلة الحداثية . فليس فيه سوى إلماحات خجولة ، وعابرة ، إلى وجود هذا القمع ، بينما كان هو السبب في انطواء هذه الشلة على نفسها ، وانسحابها من الفضاءات المفتوحة إلى اجتماعات ضيقة ومغلقة وموبوءة ، واضطرار الفتيات الموهوبات إلى التسلل إلى هذه الاجتماعات والتشبث بهذا أو ذاك من فرسان الحداثة بحثاً عن فرص النشر والظهور والانتشار . فلولا وجود هذا القمع لأمكن نشوء علاقات طبيعية بين ذكور الحداثيين وإناثهم ، علاقات لا غبار عليها ، أو عليها القليل القليل من الغبار . الراوي في هذه الرواية هو بطلتها مريم ، ترويها بضمير المتكلم ، فهي راو عليم ، محيط بكل تفاصيل الأحداث ، ومتحكم في روايتها ، يصرح بما يشاء ويحجب ما يشاء ، ويحتكر لنفسه فقط حق توصيف الشخصيات والتحكم بأقوالها وتصرفاتها . ولذا يصعب القبول بقول المؤلفة إنها كانت ( محايدة في رسم الشخصيات ورسم الجو العام ) . فمريم كانت ترى الشخصيات بعيون المؤلفة ، وتصف الجو العام بلسانها ، سواء أكانت المؤلفة من داخل الشلة أم من خارجها ، وكانت معلوماتها عنها عيانية أم سماعية . ويرى الناقد عثمان الغامدي في مقال له أن المؤلفة ( لم تفهم شخصياتها بشكل عميق ولم تتعرف على نفسياتها ، ولم تضع لكل شخصية من الشخصيات قالباً أو نمطاً واضحاً تستطيع من خلاله تفسير مواقفه الاجتماعية والانفعالية والعاطفية ) . ويقول الناقد محمد العباس في مقال آخر إن ( الشخصيات لم تقدم من منظور تحليلي يبرر انتهازيتها وسقوطها ) . والحقيقة أن شخصية مريم هي الشخصية الوحيدة الواضحة في الرواية ، غير أن وضوحها نسبي في الواقع ، حتى أن القارئ لا يستطيع أن يتخيلها إلا بشكل الشبح الأسود المرسوم على غلاف الكتاب . ولولا تشبيه علي بجون ترافولتا ، الممثل الأمركي المعروف ، لظل هو الآخر مجرد شبح . فشخصيته مثل باقي الشخصيات ، بلا تاريخ واضح ولا عمق نفسي ولا خلفية اجتماعية . بل أن بعض هذه الشخصيات بدت مجرد أكسسوارات سردية أو حتى أقل من ذلك . ولولا الأحداث التي وقعت في الثلث الأخير من الرواية ، لكانت رواية بلا أحداث مفصلية . فقد هيمنت الحوارات على ثلثيها الأولين ، وهي حوارات ثنائية في غالب الأحيان ، وفي هذه الحوارات الكثير من التكرار . وبذا كانت رواية بطيئة النمو على مستوى الفعل والحركة . أما أحداث الثلث الأخير فهي مبنية بناء مفتعلاً ، وبمنطق تلفيقي غير مقنع البتة ، ويتجلى هذا التلفيق في نوع المكيدة التي دبرتها مريم لعلي لتورطه وترغمه على الزواج منها . فهي مكيدة يصعب تصور حدوثها على صعيد الواقع بالتفاصيل التي رويت بها . إذ تعد مريم لعلي ، بالاتفاق مع منيرة ، فخاً ليلقى القبض عليه معها في شقته بتهمة الخلوة غير الشرعية . وحين تقع هذه الخلوة تسلمه مريم نفسها بحب ورغبة يصرح بهما النص ، وبعد ذلك مباشرة تعطي إشارة للمداهمين بمكالمة هاتفية ، ثم تكون المداهمة ، ويرغم علي على قبولها زوجة له وسيف ( هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) مسلط على رقبته . ويتجلى التلفيق ثانية في الكيفية التي رتبت بها مريم واقعة حملها والطريقة التي استخدمتها في ذلك وقالت إنها تعلمتها من مشهد رأته في أحد الأفلام ، برغم تحوطات علي نفسه ( بالواقيات المطاطية ) والتحوطات التي فرضها عليها ( حبوب منع الحمل ) . ولكن رغم هذا كله تقرأ الرواية بسلاسة . فلغتها ، وهي شفيعها الوحيد ، لغة حديثة وجميلة ومنوعة وانسيابية ، تكثر فيها المجازات والإيحاءات ، وحواراتها على ما فيها من تكرار لفظي تشحن القارئ بالتوقعات ، وتشجعه على انتظار ما سيحدث بعد حين ، فيمضي في قراءتها دون إحساس بالملل . ويبقى أن أقول : إن هذه الرواية تستحق القراءة لأسباب أهمها أنها تعطينا فكرة عامة ، واقعية أو قريبة من الواقع ، عن البيئة الحداثية السعودية في مرحلة معينة من تاريخ البلاد . القدس العربي