صار اعضاء حركة النهضة في تونس ومنتسبو جماعة الاخوان المسلمين والتيارات السلفية الاخرى المتحالفة معها في مصر يتحدثون عما يسمونه بمحاولات اجهاض الثورة. كما لو أن الثورة كانت هبتهم ولقيتهم النفيسة. كما لو أنهم هم الذين تقدموا الصفوف وتحدوا بصدور عارية شرطة بن علي وبلطجية مبارك. بقلم: فاروق يوسف لنعد قليلا إلى الوراء. لم يكن محمد البوعزيزي منتميا إلى حزب النهضة. لقد أشعل الشاب التونسي النار بجسده لا لإسباب عقائدية، بل اعلانا عن ضيقه بالعيش في بلد صارت البطالة فيه ايقونة سياحية. لو كان البوعزيزي عضوا في حزب أو عصابة لما انتحر. في مصر قتلت الشرطة الشاب خالد سعيد الذي لم يُعرف عنه شغفه بأفكار جماعة الاخوان المسلمين. ولو كان ذلك الشاب عضوا في الجماعة المحظورة لما تجرأت الشرطة على قتله علنا. ما كان البوعزيزي إذاً يقتل نفسه وما كانت الشرطة لتقدم على قتل سعيد. ثنائية حائرة تكاد تشير إلى الموقع نفسه. لم تكن شرارة الثورة في تونس نهضوية ولم تكن في مصر اخوانية. التاريخ لم يكن عادلا. كان الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وهو رجل مخابرات قد فر من البلاد أثر تفاقم الاحتجاجات، ويقال أن هناك من غرر به، محليا وعالميا. الواقع يقول أنه لم تكن هناك قوة متماسكة تقف أمامه. لقد غصت تونس بهياج شعبي من غير أن تظهر قيادات على الملأ. فر بن علي ولم تستقبل فرنسا طائرته. رحبت به السعودية ووضعته في قصر إلى الأبد. في مصر حدث ما يشبه ذلك. لقد وضع الرئيس المصري حسني مبارك نفسه في قفص حين صار ينظر إلى ما يجري في ميدان التحرير من جهة كونه مجرد العاب صبيانية. كما أتوقع فان فرعون مصر لم يكن في حاجة إلى أن يُغرر به أحد. ذهب إلى شرم الشيخ، بعيدا عن الصراخ ليكتب هناك آخر فصل من فصول مسرحيته. في الميدان لم يرتفع شعار حزبي واحد. على الأقل لم يكن هناك شيء ولو صغير يذكر بجماعة الأخوان المسلمين ولم يرفع المعتصمون شعارا دينيا واحدا وكانت القيادات كلها شبابية. في الحالتين التونسية والمصرية كان جل المتظاهرين الغاضبين من الشباب الذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين سنة. كما دخلت المرأة طرفا مهما ورئيسيا في ذلك الحراك الثوري. يومها كان واضحا أن الشباب هم مادة ذلك الحراك الذي تنبعث رؤاه في التغيير من طبيعة نظرتهم إلى قيمة ومسارات حياتهم واسلوب العيش الذي تغير، بفعل وسائط الاتصال الحديثة. وهذا ما لم تكن الاحزاب التقليدية ولا النخب الثقافية وفي مقدمتها النخب السياسية المعارضة قادرة على استيعابه والتفاعل معه أو على الاقل تصديق ما نتج عنه. ولو سئل الغنوشي يومها عن امكانية سقوط النظام وفرار بن علي لما أجاب بالايجاب، بل لأعتبره أضغاث أحلام كذلك الامر بالنسبة لزعامات الجماعة المحظورة في مصر، الذين لم يكفوا عن القول أثتاء الثورة أنهم مجرد دعاة، ولا علاقة لهم بأي حراك سياسي يتجاوز فكر جماعتهم السياسي. كانوا ينظرون إلى ما يجري في ميدان التحرير بعين اللعنة. بعد سنتين من بدء ذلك الحراك بما حمله من تغييرات جوهرية في تشكيلة الفئات الحاكمة، تبدو الخرائط السياسية مختلفة تمام الاختلاف عن تلك الخرائط التي رسمها الشباب في كلا البلدين لمستقبل أحلامهم. فها هم السياسيون التقليديون يتقدمون المشهد السياسي، كما لو أن ذلك المشهد كان من صنعهم. كما لو أنهم كانوا مادة ذلك الحراك وريادييه وحملة مشعله. صار اعضاء حركة النهضة في تونس ومنتسبو جماعة الاخوان المسلمين والتيارات السلفية الاخرى المتحالفة معها في مصر يتحدثون عما يسمونه بمحاولات اجهاض الثورة. كما لو أن الثورة كانت هبتهم ولقيتهم النفيسة. كما لو أنهم هم الذين تقدموا الصفوف وتحدوا بصدور عارية شرطة بن علي وبلطجية مبارك. هناك تزوير للوقائع وسرقة للتاريخ ليس إلا. السؤال هو مَن سرق مَن؟ لقد تم طرد شباب الثورتين خارج فضاء الحكم حين احتلت القوى المخضرمة كل مساحة ذلك الفضاء. صار الاخوان والنهضويون يتحدثون عن قوى الثورة المضادة. وهو مصطلح مضلل تُراد منه الاشارة إلى القوى الشابة التي فجرت الثورة. هل انقلبت المعادلة إذاً؟ ومن قلبها؟ فلا حركة النهضة في تونس ولا جماعة الأخوان في مصر في إمكانهما أن يتصلا فكريا بحراك الشباب الثوري الذي هزم النظامين السياسيين في كلا البلدين. هذا أمر بديهي ولكن في المقابل فان المعارضة هي الأخرى لا يمكنها الإدعاء بانتمائها إلى ذلك الفكر الشبابي. كلا الطرفين (إلا في ما ندر) انما يمثلان بقايا النظام السياسي الذي كان سائدا قبل الثورة. ما جرى واقعيا يمكن تلخيصه في أن القوى السياسية القديمة التي كانت عاجزة عن تغيير النظام السياسي أو أنها كانت جزءا منه قد استعملت خبراتها التقليدية في الاستيلاء على ثمار الثورة. لقد عرفت كيف تحضر حين القطاف. وهكذا عاد البلدان، لا إلى عصر الطغاة، بل إلى العصور المظلمة التي سبقته. أما الثورة وشبابها فقد صار عليهما أن يبحثا عن وقت قطاف آخر. كان الربيع العربي فرصة لتغيير المجتمعات فإذا به يصير مناسبة لتغيير الحكومات.