تمتد الحكايات وبعضها تدور تفاصيله داخل الجامعة، وحكايا أخرى تجبرنا على أن نحمل عصا الترحال نحو الداخليات، حيث يكون السرد بطعم الغربة والأمل في تحقيق الذات. وكثيرا ما ينطبق القول «مأساتي اني بسيط وأحلامي واقفة جبال»، فهي مأساة كل الناس، ولكنها تتخذ شكلاً آخر في الداخلية وبين ردهات غرفها..الغرف التي تحوي بين جدرانها حكاوي السنين بنكهة الفرح المختفي خلف الانين المكبوت، او المخفي تحت قيم التكافل والتراحم التي تميز الجميع، وفي تلك البقعة الاشتراكية تبدو في أبهى صورها ومعها قيم سودانية بحتة.. «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب»،الغيب الذي لن يكون بعيدا عن جيب الاخ الاب والخال والعم. وهو ما لا يمكن تأخيره حسب ما حكت لي إحدى المقيمات هناك: ما عليك سوى أن تعملي مسكول لأي تلفون من ناس البيت، عندها لن يتأخر رنين هاتفك ومعه الرصيد الذي يأتي من اتجاهات مختلفة، وعندما سألتها: وعندما يتأخر هذا الرصيد أو التحويلة ما العمل؟ لم تتأخر وردت بسرعة: الدنيا بخير، وكالتي تخاف أن يحمل الكلام غير معناه، استمرت: مسؤول البوفيه في الداخلية لا يتوقف عن تلبية الطلبات، فهو رجل في عمر أبي والجميع يناديه بعم احمد، تلك وحدها كافية لحلحلة كل المشكلات فهو رجل ولا كل الرجال.. هكذا تقول كل القاطنات هناك عنه، ومع حاج أحمد هناك «بت الاتصالات» شابة في عمرنا ولكنها مثل أمنا تماما، وهي أشبه بالصراف الآلي عندها اموالنا وأسرارنا معاً، وكذلك دفاتر ديوننا. وأضافت هناك الدفتر مهم للغاية للدين والمذاكرة وكتابة الخواطر عن الحبيب المنتظر.. تلك هي بيئة المكان، وللزمان هناك أيضا أهميته في رحلة الخروج والولوج. وتلك الشابة تتفرس وجوه الخارجات وما يرتدين من ملابس، وقد تكون سببا في عودتك الى الغرفة، وفي البال المستند الذي تم التوقيع عليه في حضور ولي الأمر في اول ايام الزيارة لعالم الداخلية.. إنتِ في بيت الحكومة وعليك الالتزام بقرارتها، والا فإن الطرد هو سبيل المخالفات، الا انه نادرا ما يحدث.. وللقاطنات حكايات مع صاحب الدار ومسؤوله الأول الصندوق القومي لرعاية الطلاب، الطلاب الذين يسمون أنفسهم بأنهم طلاب رعاية الصندوق، كتأكيد على اختلال المعادلة في مرات، الا ان الصندوق ليس شراً كله، خصوصا في بداية الشهر، حيث تأتي الإعانة ام خمسين الف التي تساهم في عبور بعض المتاهات، وكثيرا ما يتم تقسيمها على أساس المساواة في ما بينهم، مع مراعاة صاحبة الحاجة الحقيقية للأموال في لحظتها. سمية فتاة مكهربة بالجمال بعيون مخملية وضحكة ملونة ودلال فتان، تشبه النسمة عندما تطل ذات محاضرة، حطمت قلوب أولاد الدفعة من نظرة عين، ولكنها رقيقة وحالمة كالعاصافير، وتكاد تقطر أنوثة في كوب العصير.. في مدرج الآداب انوثتها وحنيتها انتقلت معها الى الداخلية.. تراها مبتسمة وهي تقوم بتقطيع وتوضيب طماطم السلطة قبل أن تضيف لها الدكوة الرفيق الدائم هناك.. يشاركها الجميع في عملية تجهيز «صحن البوش» في وجبة الإفطار حينما تدركهن في الداخلية، وبعدها ترتفع الأصوات منادية للكل.. الفطور جاهز.. الأيادي التي تقتسم لقيمات سمية هي نفسها الأيادي التي تتوسد قلوب بعض في الأمسيات عندما يحين وقت الحكي عن صاحب العيون السوداء والنظرات المميزة في صباحات الجامعة.. والسؤال المعتاد «رأيكن شنو» بلغة انثوية تتقطر حنانا.. ممكن يكون قاعد يتونس ولا جادي قبل أن تنطلق الضحكات تشق ظلام الليل، وصوت المشرفة يأتي مجلجلا «يا بنات ما تنومن».. وللنوم ايضا هناك طقوس خاصة في ظل أزمة الأسرَّة والمراتب، الا انه سرعان ما يتم الاتفاق على ان الضيوف اولا وما اكثرهن.. واصعب ما يقابلهن كيفية العبور من البوابة بعد إبراز البطاقة التي تدخل اكثر من واحدة، ولسميرة المديرة حكاية اخرى، فهي من اهم المواطنات هناك، ومسؤولة التجميل الاولى التي تمر كل الخارجات عبر بوابة غرفتها المحفوظة عن ظهر قلب، وهن يتساءلن اللبسة دي جاية؟ ومن الصعوبة أن تقتنع صاحبة السؤال بإجابة تتقاطع وذوقها في الاختيار.. سميرة تعرف ذلك وتجيب بلباقة مبالغة: لو غيرتِ الاسكيرت بالاسكيرت الفوشي، أو لو كان لون الطرحة بنفسجية.. نسيت أن أقول إن اشتراكية الطعام تنتقل لاشتراكية اللبس، فهناك الناس شركاء في هواء المروحة وكهربتها المدفوعة القيمة، وفي أكل «صحن البوش» او كوب العصير المتبوع بكيكة، وفي النار التي تشتعل «هيتراتها» بعيدا عن أعين الرقيب، لأنها ممنوعة من قبل الإشراف لخطورتها، الا ان الممنوع مرغوب وبشدة.. فهناك المشرفة تعلم باشتعال «الهيترات» التي تفضحها رائحة قدحة العدس، الا ان الوصول اليها اصعب من الوصول الى ابرة في كومة من القش، ومن المعتاد رؤية «طرحة دي في رأس ديك» الا ان عملية اثبات الملكية تبدو من الصعوبة بمكان لغير أفراد «القروب» الواحد ول «القروبات» الجامعية حكايا اخرى سنعود اليها في مقبل الأيام. الزين عثمان