المسألة أكبر من تشويه تمثال، هي تشويه رمز، قيمة جمالية، ربما ربطتنا روحانيا بالمكان المحرض دائما على الإبداع والتحرر والثورة. بعدسة وقلم: محمد عطية محمود حولني التمثال إلى مصور هل هناك فرق بين إساءة الأدب وإساءة الذوق، والوحشية المفرطة التي تحولت في واقعنا الجديد إلى بلطجة علنية، لا تقتصر على معناها وأشكالها المعتادة للبلطجة، فقد امتدت لتشمل قطاعات عديدة ممن يمارسون حياتهم في هذا الواقع المزري الذي للأسف كشف عن أمراض كانت مخبوءة تحت بشرة هذا الكيان الذي كان مجبولا على الصمت، فإذا بالصمت ينقلب إلى عدوانية في تحول صارخ وعدم فهم لأي من معاني الثورة والتحرر والتمرد إلى ما هو أفضل، بدلا من التعاطي المحمود لهذا الفكر الذي يدعو إلى الإصلاح والتنمية وتجاوز تلك الفترات المظلمة من حياة الشعب، بل على العكس تماما صار المصدر الدافع للحياة الجديدة، هو الفكر المشوش والجهل الشديد المتعمد لسبل التعامل مع البشر، وطمس كل الحقائق وكل الثوابت، وطمس كل ما هو حضاري وجمالي بالمفهوم الراقي للأشياء. ما الطبيعة ولا البيئة إلا هذه الجزئيات الصغيرة من الجمال والإبداع التي تلون حياتنا الصعبة ببعض من البهجة، وما سلوكنا الشاذ بجدارة مع بعضنا البعض إلا مقدمة لأعمال أخرى لا تقل تدميرا ولا تأثيرا عكسيا هداما، عن اعتداء الأشخاص الخارجين من رحم العتمة على أبناء بيئتهم ووطنهم الكرماء، واغتصاب ما لا يجوز اغتصابه في وضح النهار، والحال لا يخفى على أحد. لا غرابة في أن يقوم مجهولون باسم التمرد والمقاطعة والإعلان عن وجهة نظر تدميرية تحريضية تدعو إلى الظلامية والارتداد إلى هوة سحيقة من عدم الوعي، لدرجة التعرض لتمثال عروس البحر الذي يعد تحفة فنية شاهدة على تاريخ هذه المدينة الخالدة الإسكندرية التي كانت عاصمة العالم القديم وحاضرته، ونحن هنا لا نتغنى بالماضي التليد، بقدر ما نترحم على هذه القيمة المتميزة والمحفورة في الوجدان لهذا الكيان السكندري الذي يحتوينا كوطن، ونحتويه في داخلنا كرمز لحبنا للوطن الأكبر، الذي صرنا نبحث عنه في جدلية عجيبة وفي دهاليز الحيرة والشتات، والمسألة ليست في أمر تمثال بقيمته الفنية والتاريخية بقدر ما هي مسألة جدل العلاقة بين الإنسان ومدلولات العلاقة بينه وبين المكان الذي يحتويه. المسألة أكبر من تشويه تمثال، هي تشويه رمز، قيمة جمالية، ربما ربطتنا روحانيا بالمكان المحرض دائما على الإبداع والتحرر والثورة الدائمة على الظلم والاستبداد، مع السماحة الشديدة التي كانت تربط علاقاتنا ببعض.. يلح على ذهنى السؤال المر مرة أخرى إذا كنا نشوه النماذج الطيبة من البشر ونغتصب حقوقهم، ولا نتسامح مع بعض بالقدر الذي كان، ويعيدنا رغما عنا إلى سياق الحديث عن التاريخ التليد، الذي أصبح ذكرى وماض نترحم عليه كلما ترحمنا على سلوكياتنا الحميدة التي انقلبت إلى الوحشية والتمرد على بعض، فلا غضاضة إذن في أن يُعتدي على تحفة فنية/ رمز في وقت نحن أحوج فيه للتعامل مع القيمة الجمالية للأشياء/ الرموز التي لن تضر أحدا، في حالة وجودها بل تنفع المفهوم الأسمى للذائقة والرقي، في حين لن تنفع مدمرها ومشوهها بشيء. لا أنكر علاقتي الحميمة، وربما كانت أحد أسباب انفعالي بالكتابة، مع التمثال/ الرمز الذي اجتمعت فيه عناصر فنية متميزة من الجمال والرونق البهي ودلالات العلاقة بين الإسكندرية "العروس" و"البحر" و"الوحش الكاسر" الذي يحتوي تلك الأنثى المكتملة المعاندة، بملامحها وقوة تجسيدها كرمز للإسكندرية عبر عصور نشأتها ووجودها وصراعها مع العالم، وهي سيدته تارة وهي البوابة التي تلج منها الجيوش إلى مصر، بثغرها الباسم تارات. تلك الملامح والعلاقات الحسية التي دفعتني للغرام بهذه القيمة الجمالية للتمثال وقدرة المثَّال على التجسيد والإقناع بتمثيل جل عناصر الحياة والصراع الإنساني مع الطبيعة، وكذا التفاعل الفني مع كل تلك العناصر، ما دفعني لأن أحاول اكتشاف قيمة هذا الجمال في ليل الإسكندرية الساحر بعدستي المتواضعة كمتذوق للجمال الناصع والزاهي والمحمل بآيات الفن الجميل الذي لا يؤذي أحدا ولكنه يرقي الذائقة وينقيها، كي ننعم بلحظات من الصفاء وسط ما يحيط بنا من أعاصير معنوية ومادية لواقعنا.. ثم أعود لأكتشف وجها آخر لهذا الجمال نهارا بانعكاسات الظل وانكساراته، بنموذج الصورة المرفقة، وتجسيدها لملامح جديدة قد تشعرك بأن هذا تمثال ليلا، وهذا آخر بالنهار.. قمة المتعة الحسية لي كمتذوق وهاو لالتقاط ما يمتع ذائقتي ويشعل شعوري بروعة الإبداع الذي أتعامل معه بفكري وقلمي المتواضع كطقس وسمة من سمات حياتي.. لقد حولني التمثال إلى مصور أحاول إعادة إنتاج هذه المعادلة الإبداعية التي جسدها الفنان، من خلال عدة مناظير للضوء وانعكاساته وظلاله. لا جدل أن التشويه سوف يُزال ويُعاد للتمثال رونقه الزاهي الذي يتحدى الزمن، لكن ستبقى الصورة المشوهة، لتشهد على ما نحن فيه من محاولات الارتداد إلى الظلامية والتخلف ومحاولات التعبير بالجدل وإثارة القلاقل، كما سيبقى جسد التمثال الشامخ ليعبر بقوة عن روح الإسكندرية من خلال رمز من رموزها الفنية التي تأبى الطمس والتشويه. محمد عطية محمود [email protected]