في ركن من تلك المساحة الضيقة، التي تفصل بين المقهى وموقف المواصلات والاشارة المكتظة بالعربات والمارة، اتخذت لي مكانا، اعتقدت انه يحفظ لي استقلالي، ويسمح لي باستراق نظرات فتيات ونسوة يقطعن الشارع، جلست مستسلما لقربان خيالي، تحلق بي عبر فضاءات احلام الجوعى حينا، وحينا آخر تلفظني بواقع زاد من مرارة قسوته مجيء «مصطفى» كما العادة وبلا استئذان بالتقطيبة نفسها سحب كرسيا وجلس قبالتي وفي محاولة يائسة للتخلص منه، اشرت الى النادل فجاء بكوب شاي ووضعه بيننا ثم انصرف لشأنه، بينما اجبرت على مبادلة جليسي ثرثرة فاترة لم يقطعها غير سؤال مباغت منه ألقى به «مصطفى» مثل قنبلة في وجهي. بم تحلم؟ ألمت بي دهشة وساورني العجب من سؤال اخطبوطي لم انتظره، ارتسمت اصابع الحيرة على وجهي احتشدت قشعريرة غضب تحت جلدي عكرت صفو ملامحي، وفي حدة لا تخلو من ثورة، نظرت الى وجه العابث وقد استند من مرفقيه الى الطاولة الحديدية، مستمتعا بمظهر الحيرة البادية على وجهي اجتهدت اغالب انفعالاتي، بينما هو يستنفر حواسه مصغيا سدت محاجري بالدموع، اصوات متداخلة تتردد في اذني، مددت يدي المرتعشة الى كوب الشاي ارتشفت منه رشفة، حطت دموع قربان اوجاعي على الطاولة امامي فاستفقت متجليا عن حذري وفي نبرة يغلب عليها الاسى، اجبته شاردا: احلم ببحر على شاطئه اجلس، واذا ما مللت البوح وملني اتحرر من ملابسي في عرى انطلق عبر اتساع الصحراء. أهذا كل ما تصبو اليه؟ لمعت عيناي ببريق ساخي، وفي نبرة لائمة قلت: والكارثة، يا هذا، ليست في بساطة احلامنا، بل في عجزنا وفقداننا الشجاعة على تحقيقها..!! وفي تحدٍ مؤلم صدمني سائلا: اذا ما ارتضيت مقايضتي، كم يكفيك من المال لتتنازل عن حلمك؟ تشنجت عروق وجهي، انهكني التظاهر بالتماسك، تشاغلت بالتصدي لنظرات زبائن المقهى، تخيلتها حرابا تمزق جسدي النحيل رددت مهزوما: وهل ثم ثمن لاحلام بسطاء مثلنا؟ شقت وجهه ابتسامة بلهاء، اسندت ظهري الى الكرسي للحظة، ما لبثت ان تملكتني قوة خرافية اعرف مصدرها جيدا. وفي تحدي قفز من ناظري قلت: الثمن فقط ان تدعونا نمارس احلامنا بلا حذر. ساد الصمت الحذر بيننا برهة، قطعت رنينه مستأذنا في الانصراف، دفعت الحساب الى نادل المقهى، ثم استدرت مغادرا اشق الزحام في خطىً واثقة لا تضل طريقها.