تقول أسطورة سودانية جنوبية، إن جفافاً في عام ما، قد عمَّ البلاد وافقرها حتى ضاق الناس ذرعاً، وسدت امامهم السبل، فذهبوا الى ساحر القبيلة وكاهنها، فأشار عليهم بتقديم قربان للإله، على أن يكون القربان فتاة من أجمل بنات القبيلة كلها، فنظر الناس فلم يروا بداً من تقديم الفتاة «يرول» اجمل بنات القبيلة على الاطلاق واكثرهن أنوثة ونبضاً بالحياة. وتقدمت القبيلة بالفتاة «يرول» قرباناً للإله حتى نزل المطر وعم البلاد الخير والرخاء. ومأساة يرول هذه كانت مدخل الممثل والمخرج والفنان المبدع ومؤسس وراعي للعديد من الفرق المسرحية محمد عبد الرحيم قرنى، حوش المسرح القومى بام درمان، حيث صعد الخشبة فى دور الكاهن بطل المسرحية فى عام 1990م، وعالجها بصورة متقنة الأستاذ الخاتم عبد الله المدير الأسبق للإذاعة والملحق الثقافى بالسفارة المصرية والكاتب الدرامى والشاعر والصحافى، وأخرجها السماني لوال ابن جنوب السودان الذى كانت «مأساة يرول» مشروع تخرجه في المعهد العالي للموسيقى والمسرح. ويضيف الخاتم مؤلف المسرحية خاتمة مختلفة للاسطورة، بها مقاربة فى العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية، وكيفية استقواء كل واحدة بالأخرى، بحيث يتعلق قلب الكاهن والساحر قرنى بالفتاة الجميلة يرول التى كان قلبها قد تعلق بشاب من القبيلة شهم وذكى، ليحقد عليه الكاهن فيدعو أهل القبيلة الى قتل «يرول» وفق معتقدهم الدينى، لينتقم لكرامته ورجولته، ويختلف اهل القبيلة بين قتلها وفق معتقداتهم وايمانهم بضرورة وجود يرول مثال الطهر والنقاء، فيقتلها الكاهن فى النهاية. وقدم قرني المسرحية التى صارت لاحقاً علامة من علامات المسرح السوداني، والأكثر حضوراً في ذاكرة الحركة المسرحية السودانية، كما وصفها د. فضل الله أحمد عبد الله الاستاذ بكلية الموسيقى والدراما. وكتب عن المسرحية الكثير من النقاد، وتناولتها المنتديات الثقافية، وحوارات البرامج التلفزيونية والاذاعية دراسة وتحليلاً، وقدمها قرني مع فرقة السديم فى مهرجان الفرق والجماعات المسرحية الأول الذى قام برعاية اتحاد الممثلين، وشاركت فيه «180» فرقة ومجموعة من كافة انحاء السودان، وشارك معه الرشيد احمد عيسى فى دور دينق وعبد الله الشماسى، وصالح عبد القادر مدير الدراما بجامعة النيلين الآن. ولعبت اميرة احمد ادريس وتهانى عبد الله دور الفتاة «يرول»، وفازت المسرحية بالجائزة الأولى، وتم عرضها بمصر بدعوة من رئيس اتحاد الفنانين العرب سعد وهبى بالمسرح القومى بالعتبة الخضراء خمسة عروض، ووجدت اشادة كبيرة. و «مأساة يرول» المسرحية العظيمة مازالت حتى الآن حاضرة فى الأذهان، وتم عرضها بعد «20» عاما بالمسرح القومى وبالمركز السودانى الفرنسي، بعد أن تمت ترجمتها الى اللغة الفرنسية، وتم عرضها بمركز الخاتم عدلان، ومازالت مطلوبة على مستوى الدولة بوصفها عملاً يحمل كل دلالات الوحدة الوطنية بين الشمال والجنوب. وتم عرض «مأساة يرول» أخيراً بالإمارات العربية فى افتتاح فعاليات ملتقى الشارقة للمسرح العربي في دورته السابعة، تحت رعاية دائرة الشارقة للثقافة والإعلام، وحضرها جمهور غفير، ووجدت مساحات كبيرة فى الصحف العربية خاصة الاتحاد والبيان الاماراتية. وتجرى التجهيزات لعرض «مأساة يرول» مرة أخرى قريباً على خشبة المسرح القومي في نسختها الجديدة، حيث كان بعض الممثلين الذين شاركوا في أول عرض طلاباً في معهد المسرح. ونواصل في الحيشان القادمة استعراض جانب من التجربة الإبداعية المتفردة للكاهن الأكبر الفنان محمد عبد الرحيم قرنى، ونتناول ما قدمه من إبداع فى الحيشان الثلاثة.