بعد فشل استيعاب الخريجين بتخصصاتهم المختلفة داخل المؤسسات أو عبر توفير مهن لهم، اتجه كثير من الشباب الى الشارع العريض لممارسة المهن الحرة بدرجتها، وذلك لظروفهم الأسرية والحاجة إلى العمل التي دفعتهم الى السوق للعمل في المهن الهامشية، فمنهم من افترش الارض بمعدات كهربائية أو يقف تحت أشعة الشمس الحارقة يحمل بيديه بعض الأدوات المنزلية، وآخر يقف خلف تربيزة لبيع الملابس. جميعهم ترك الشهادة جانباً وبعضهم زيّن بها جدران المنزل، حتى ان بعضهم قال إنه نادم على السنين التي قضاها هدراً في الدراسة ليصل الى هذه النتيجة، وهذا بحكم اليأس والواقع الذي يعيشون «على حد قوله»، فهذا الوضع ادخل الشباب في ضغوط نفسية عالية، فبدلاً من الانتظار اتجهوا الى التجوال لبيع السلع والعمل في مهن هامشية لا تتناسب مع مؤهلاتهم العلمية. «شباب وجامعات» وقفت مع هؤلاء الشباب لمعرفة الاسباب التي دفعتهم لممارسة هذه المهن، رغم ما يحملوه من شهادات جامعية ومعرفة كيف يكسبون رزقهم وكيف يخططون لحياتهم؟ وتالياً خرجنا بالحصيلة التالية: أول من التقينا به هو عبد الباقي العبيد الصديق بائع متجول، تخرج في كلية العلوم الإدارية جامعة الخرطوم بتقدير متميز، قال إنه تخرج منذ عام 2005م وتقدم للعديد من الوظائف الحكومية وغير الحكومية، الا أنه ورغماً عن ذلك لم يجد فرصة للالتحاق بأية من مؤسسات الدولة، الأمر الذي اضطره في آخر المطاف الى أن يصبح بائعاً متجولاً يقضي كل يومه جيئة وذهاباً، «وضعت الشهادة جانباً لعدم جدواها» هكذا تحدث الي، واضاف ليت المأساة تقف عند هذا الحد، فعن نفسي تعايشت مع واقعي الذي فرض عليَّ، ولكن كما يقول المثل «رضيت بالهم والهم ما راضي بي» فإن تكون بائعاً متجولاً له مخاطر كبيرة، فالمحلية تقوم بمصادرة البضائع بصورة دائمة لأنها ترفض وجودنا، بينما نحن في المقابل لا نملك حلولاً، فلو استطعنا أن نتوظف فما المانع من ذلك؟ تسأول كبير تركه عبد الباقي أمامي وكأنه لا يتوقع الاجابة عندي، فحمل بعضه وذهب، فالتقيت بالبدري آدم محمد الذي تخرج في كلية الاقتصاد بجامعة النيلين، ويعمل الآن بائعا متجولا «ولاعات للسجائر» الذي قال انه منذ أن تخرج في عام 2004م ولم تتوفر له وظيفة حتى الآن، ضارباً كفيه ببعضهما وهو يردد «البلد دي ما بتدي حريف». واضاف انه كان من المتميزين في الدفعة، وكان يمكن أن يجد الوظيفة بعد تخرجه مباشرة، ولكن الواسطة تلعب دوراً كبيراً في الحصول على وظيفة محترمة يمكنك من خلالها ان تعول أسرتك ونفسك، واضاف حتى الوظائف خارج السودان اصبحت صعبة جداً وليس بها عائد يذكر، بل أن العاملين بالخارج يجدون الذل والهوان، وعنه نفسه يقول «بدلاً من أن نذل ونهان في الغربة من الافضل لنا ان نهان في بلدنا وفي حقنا». أما خالد فهو سائق أمجاد، وبالرغم من أنه نموذج آخر من الخريجين الذين يعملون دون شهاداتهم، الا انه افضل حالاً من الآخرين، فيقول هذه المهنة لا ترضي طموحه، فلجأ اليها عندما أصابه اليأس من الحصول على وظيفة، فقد قام بالسفر خارج السودان مرتين، ولكن الرواتب كان غير مجزية. خريج جامعة النيلين في كلية الآداب محمد، افترش الارض لبيع الخضر كما يقول، لأن الدولة لا تقيم الشباب ولا الخريجين، بالرغم من أن هناك من يحملون شهادات ثانوية يجلسون على المكاتب برواتب مقدرة، بينما نحن الذين نملك الشهادات الجامعية نجلس تحت ألسنة الشمس الحارقة لنجني بعض الجنيهات عند مغيب الشمس، ولكن الواسطة تلعب دورا كبيرا. هذه الآراء تمثل الشريحة التي لم يتسلل اليأس الى داخلها، وفضلت الاجتهاد بالطرق الاخرى، وبالمقابل هناك شريحة استكانت لهذا الواقع المزري ليقضي الشباب أوقاتهم بالجلوس في الشوارع نهاراً والذهاب الى الاندية ليلاً، وهذه الفئة يمكن ان تشكل خطراً على المجتمع بالممارسات السالبة للشباب التي لا حصر لها. نقطة أخيرة: هذه فقط نماذج لكثير من الشباب الذين امتلأت بهم جنبات الأسواق والشوارع وأمام مواقف الحافلات، وبعضهم يعمل في مهن لا تناسب المؤهلات التعليمية بأية حال من الاحوال، فكان أحق بالدولة ان تضعهم في سلم أولوياتها حتى لا يتحول هؤلاء الى عبء على المجتمع، وليس بعيداً عن البال ظواهر الانحلال والتفكك الاجتماعي التي بدأت تلوح في الافق، ودونكم اخبار الحوادث وشوارع الحلة التي امتلأت بالشباب العاطلين عن العمل، وهنا يحق لنا أن نتساءل أين هي مشارع التمويل الأصغر للشباب؟ وما مدى جدواها ومعالجتها لمثل هكذا ظواهر؟ سؤال كبير يطرح نفسه نتمنى أن نجد له إجابة؟