تقول النكتة السياسية في أيام مجد الاتحاد السوفيتي والتنافس الكبير بين واشنطن وموسكو، قال امريكي لرجل روسي وهو يفاخر في امريكا توجد حريات كبيرة جدا يمكنك ان تشتم الرئيس «كارتر» ولا احد يسألك، فرد عليه الرجل الروسي فقال ايضا لدينا حريات كبيرة، ففي الاتحاد السوفيتي يمكنك ان تكيل الشتائم ل «كارتر» ولا أحد يسألك. قادتني هذه النكتة السياسية وذكاء الرجل الروسي الذي استطاع ان يوظف فخر الامريكي ويعيد اليه اللعبة بهجمة مرتدة في نفس الوقت، والحديث بلغة (الرياضة) دخل الحوش مع بدء الانتخابات السودانية وتدشين الحملات الانتخابية للمتنافسين على كل المستويات، وبالتأكيد جذبت الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الاهتمام الكبير لدى الناخبين والمتابعين والمراقبين ولدى وسائل الاعلام بمختلف توجهاتها، خاصة حيث أعلن حزب المؤتمر الوطني حملته من داخل استاد الهلال وزيارة البشير قبلها لافتتاح منشآت بنادي المريخ، الأمر الذي أشار إليه الصادق المهدي رئيس حزب الامة باستغلال المؤتمر الوطني لشعبية الهلال والمريخ وتجييرها لصالح المؤتمر، والمؤتمر الوطني نفسه أشار الى أن الحركة الشعبية تريد استغلال مقتل طالب كلية التربية بجامعة الخرطوم لاحداث فوضى في الخرطوم والتأثير على قيام الانتخابات، كما يشير الكاتب اسحق فضل الله في كتاباته إلى أن الانتخابات ستحد من نفوذ الحركة الشعبية، وكما طالب كاتب آخر بفتح الجنوب امام حملة البشير أو اغلاق الشمال امام حملة ياسر عرمان، ويبدو ان الكاتب نسي ان الشمال لم يعد حكرا للمؤتمر الوطني، ففي الساحة حزب الامة والاتحادي والمؤتمر الشعبي، وغيرهم، وان التعامل بالمثل قد انتهى وقته، حتى لما كان هذا الامر متاحا في الفترة السابقة وضيقت الحركة الشعبية على المؤتمر الوطني باغلاق دوره في الجنوب واعتقال واغتيال قادته، فقد هدد البشير وقتها بالتعامل بالمثل، ولكن الاجهزة المعنية لم تنفذ هذا الامر، وبرر وقتها د. نافع علي نافع بأن المؤتمر الوطني يصبر على افعال الحركة الشعبية لحداثة تجربتها في العمل السياسي او قيادة الدولة او تسيير امور الحكومة، ولكن هذا المبرر لم يكن مقنعا لدى الكثير خاصة عضوية المؤتمر الوطني، ولكنهم صبروا على أساس ان كل المعلومات ليست بين ايديهم، وربما د. نافع يقف على كل الحقائق بحسب موقعه في الحزب والحكومة وخلفيته الامنية التي لازالت تظهر من حين الى آخر في عمله السياسي وتعامله مع (الخصوم) سابقا و(المنافسين) حالياً. ويبدو أن الحملات الانتخابية التي انطلقت في الخرطوم وكل عواصمالولايات، تتحرك بمنهج واحد، فكل الأحزاب المنافسة للمؤتمر الوطني تتكئ في حملاتها الانتخابية على اخطاء المؤتمر الوطني خلال العشرين عاما التي قضتها الانقاذ في حكم البلاد منفردة، دون اتاحة الفرصة لآخر أن يشاركها في ادارة دفة البلاد حتى (الكوة) التي انفتحت باتفاقية السلام وجعلت الانقاذ او المؤتمر الوطني يكتفي ب 25% ويترك البقية 84% منها 82% للحركة الشعبية و41% للقوى السياسية الشمالية و6% للجنوبيين من غير الحركة الشعبية، حتى هذه الفرصة لم يدعها للمؤتمر الوطني، فشغلها باحزاب من كرتون كما يقول المهدي، مثل حزب الأمة التجديد والتنمية والفيدرالي والقيادة الجماعية والاتحادي المسجل وجبهة الانقاذ الجنوبية، وبالتالي استعاد المؤتمر ال 02% واصبح نصيبه 27% مقابل 82% للحركة الشعبية. وبالتالي يرى المؤتمر الوطني أن رؤيته للحكم والتنمية هي الأصلح للسودان، وحاول من خلال العشرين سنة أن يعزز تلك الرؤية، وكل يعمل جاهدا من أجل ترسيخ هذا المفهوم، وهو يضع بين يده عشرين عاما من الحكم مصحوبا بانجازات في التعليم والطرق والكباري والاتصالات وغيرها. وحتى البشير في حملته رجع عشرين سنة الى الوراء، وذكر الناس بأيام الصفوف في البنزين والخبز، وانعدام السلع الاساسية، وتدهور الخدمات الصحية، والانفلات الامني، وتساقط المدن في قبضة التمرد. وبالمثل لم تكن بقية القوى السياسية التي انطلقت حملاتها الانتخابية قد قدمت نفسها على أنها الاصلح لحكم السودان، وان العشرين سنة التي انقضت من حكم الانقاذ والمؤتمر الوطني كانت معظمها سلبيات خاصة في مجال الحريات وحقوق الانسان وتدهور الخدمات في مجال الصحة والتعليم وتحرير خدماتها، فالاثرياء هم الذين يحصلون على خدمات ممتازة، أما بقية الشعب فإنه يكابد من أجل الحصول على هذه الخدمات. ويبقى الناخب صاحب المصلحة الحقيقية الذي تحولت احلامه من «عايزين بوستة ومدرسة وسطى» في الانتخابات السابقة، فإن الانقاذ الوطني قد اراحتهم من «المدارس الوسطى» وتم الغاؤها، اما البوستة بشكلها التقليدي فتجاوزها الزمن والتطور الذي حدث في ثورة الاتصالات بالموبايل والانترنت، فأصبح لكل مواطن «بوستة» في بيته او قل في جيبه يرسل ويستقبل الرسائل دون ان تكلفه مشوارا او رسوم طابعة. اذن فقد تجاوز الناخب مرحلة مطالبه بالمدرسة الوسطى والبوستة، الى اشياء اكبر من ذلك فرضها الواقع المتطور حتى على مستوى الخدمات في التعليم والصحة، فلم تعد الوسائل التعليمية المستخدمة الآن في المراحل الاولية والثانوية والجامعية كافية لخدمة الطلاب والتلاميذ، وان كان كمال عبد اللطيف وزير الدولة قد تحدث عن تطبيق المعايير الدولية في التعليم والصحة وبقية الخدمات على مستوى السودان، فاذا طبق المؤتمر الوطني هذه المعايير الدولية يكون نهض بالسودان واراح د. تاج السر محجوب الامين العام لمجلس التخطيط الاستراتيجي وتنظيره الكثير عن التجربة الماليزية. أما بقية الأحزاب والقوى السياسية التي تعزف على سلبيات المؤتمر الوطني، خاصة في الصفوف التي ذكرها المهدي صفوف اللاجئين والنازحين ومفصولي الخدمة المدنية والمحالين للصالح العام والمعاش من القوات النظامية، واصلاح الخدمة المدنية، وتوفير العدالة والحرية وتأسيس حكومة الدولة وليس حكومة الحزب، فإن ذلك يعد ايضا نوعا كسب الناخب. والناخب مسكين، فكل القوى السياسية تمارس عليه «المنطق الفرعوني» وهي تمارس عليه الاستبداد السياسي والفكري وادعاء الحقيقة ومحاولة فرضها على الآخرين، وفي ذلك تعطيل لأهم الامكانيات في الانسان. وهي امكانية التفكير والكشف والاستكشاف، وهي تعد شرطا لازما للاستخلاص. ولقد انكر القرآن على فرعون التحكم في زوايا النظر ومنطلقات التفكير في خطاب رعيته، وفي محاولة لتجميد عقولهم، فلا يرون الا رؤيته ولا يفكرون الا بعقله، فقال مخاطباً «وما أريكم الا ما أرى وما اهديكم الا سبيل الرشاد» الآية 92 من سورة غافر، وقد امر القرآن الكريم بتجاوز مثل هذا المنطق الفرعوني في التعامل مع مثل هذه الاشياء، وان اصحاب هذا المنطق الذي يحاولون حصر الجماعة البشرية في اطار (نظريتهم المحدودة) ما هم الا طواغيت. فالحركة الإسلامية قامت على فك أسر الجماهير الانصار والختمية او حزب الامة والاتحادي، واخراجهم من دائرة الزعيمين ومن نظرية «ما أريكم الا ما أرى» والقوى السياسية ترى ان المؤتمر الوطني يمارس على عضويته وعلى بقية أهل السودان نوعا من الاستبداد الفكري والسياسي وادعاء الحقيقة، وان كان ثلاثتهم المؤتمر الوطني والامة والاتحادي يدَّعون أن برامجهم تنطلق من الثوابت الإسلامية، ولكن طرق على كل على آخر يؤكد غير ذلك. فالمنطق الفرعوني الآن يمارس على الناخب، وكل يقول لهم «ما أريكم الا ما أرى وما اهديكم الا سبيل الرشاد» فالناخب يبحث عن سبيل الرشاد، ولكن يظل الغباش والتعتيم اللذان تمارسهما القوى السياسية وغياب الشفافية، يجعل الناخب في حيرة من أمره ولا يستطيع الوصول الى سبيل رشاد. ولقد أشار المفكر الامريكي نعوم تشومسكي إلى أن هذا المنطق الفرعوني تمارسه الولاياتالمتحدة، واصفا الحريات في امريكا قائلا: «ان الولاياتالمتحدةالأمريكية تحقق درجة غير عادية من حيث وجود حرية التعبير فيها، كما انها تحقق درجة متفردة من حيث اتساع وفعالية الوسائل التي تستخدمها لتقييد حرية التفكير. وترتبط هاتان الظاهرتان ببعضهما بعضا، فكلما تقلصت قدرة الدولة على استخدام العنف في الدفاع عن مصالح النخبة المسيطرة، ازدادت اهمية ابتكار اساليب ل «صناعة الموافقة» او «هندسة الموافقة» وتفتح طرق صناعة الموافقة في استخدام شكل من اشكال اللغة يكون فيها للكلمات معان جديدة مخالفة لمعناها الاصلي، فعلى سبيل المثال معظم (عملية السلام) بمعناه الذي تستخدمه وسائل الاعلام والمؤسسات البحثية في الولاياتالمتحدة، يشير الى مقترحات السلام التي تقدمت بها الولاياتالمتحدة، وان أي طرف لا يقبل بالمقترحات الامريكية فإنه في عرف وسائل الاعلام الغربية معادٍ للسلام او رافض للسلام، بالرغم من ان للعرب والفلسطينيين مقترحات سلام، لكن وسائل الاعلام تصر على نعتهم برفض السلام» وهذا هو تشومسكي يكشف عن هذا المنطق الفرعوني في الولاياتالمتحدة نفسها، وأصبح هذا المنطق سائدها، ولكن تظل هذه القوى السياسية خلال فترة الحملة الانتخابية تقول للناخبين «ما أريكم الا ما أرى وما اهديكم الا سبيل الرشاد». ولكن تبقى الحكمة هي ضالة المؤمن أو ضالة الناخب، والحكمة تقول «البيجرب المجرب ندمان».